باسل الأمين.. الحياة كما لو أننا نبتكرها

باسل الأمين.. الحياة كما لو أننا نبتكرها

22 سبتمبر 2019
باسل الأمين
+ الخط -

قد يُوحي عنوان المجموعة الشعرية "في العشرين نتكلّم كثيراً" (دار النهضة العربية، 2019) لباسل الأمين (1995) بأن شاعرها على وشك أن يبدأ مساراً، أو هو في طريقه إلى أن يقول. ولكن قراءةً متأنية لهذا الشاعر الذي يصرّح ببساطة، كما جاء في إحدى قصائده، أنّه يكتب كما لو أنه يسير في الشارع، يمكن أن تكشف أنه مأهول بمشاغل تجاوزت البدايات منذ زمن طويل، أي قبل سن العشرين بثلاثة عقود أو أكثر على الأقل زمنياً، وتجاوزت مكانياً فضاء لبنان إلى فضاءاتٍ أبعد بفضل المترجمين الذين يقول" "لولاهم لكانت الحياة عبارة عن قفص".

ويمكن أن يُؤخَذ قوله أنه "يسير في الشارع" مأخذ الإشارة المجازية إلى تناوله لموضوعات مألوفة في حياة كل واحد منّا، وانغماره في وسط جموع تضيع فيها ملامحه التي تجعل منه "الآخر" أو "الغير"؛ إنه ذاته وغير ذاته في وقت واحد معاً، الغيرية التي عبّر عنها الشاعر الفرنسي آرتور رامبو شاباً، قبل أن يهجر الشعر في التاسعة عشرة من عمره (أنا شخص آخر).

بالطبع، لا يعني هذا أنَّ نصه يفتقر إلى أضواء من داخله، فالنص، أيُّ نص، "هو واحد بين نصوص ونوعه له تاريخ" على حد تعبير محمد لطفي اليوسفي. ويجيء هذا التقاطع بين الداخل والخارج عفوياً وبسيطاً ومباشراً في قصيدة "أقدّم كثيراً":

"كانوا هناك، فقط مددت ما تبقى من أصابعي
أردتُ أن أقلّد شارل
أن أقفز في السيارات
أكون شريراً في سيارة".

ويجيء بشكل غير مباشر في أحيان أخرى كما في قصيدة "وجهي":

"ألم تر أنَّ الفتى الذي نظر من شبّاك غرفته
ظنَّ أنَّ العالم كان ينظر إليه؟".

هذه السطور كتابة على الحافة بين عالمين متداخلين، كتابة تشير فوراً إلى علاقة أدبية بين الشاعر وبين سطور شاعر آخر من جيل سابق قريب هو شارل شهوان، صاحب مجموعة "شرّير في سيارة" (2011) وقصص "حرب شوارع" (1991)، والأكثر أهمية صاحب مجموعة "شاب يغتسل بمفرده" (1987)، الذي يتطلّع إلى نفسه في المرآة، فيظنّه ناقدٌ نرجسياً، ويرى آخر أنه يكتب شعراً ضد الشعر لأنه يجرّد اللغة من التهاويل العاطفية، بينما هو، شأنه شأن الجيل الذي جاوره وجاء بعده، جيل من يتكلّم كثيراً في العشرين، يجعل المرآة مدخلاً كما فعلت "أليس" إلى بلاد العجائب، ويكتب ساعياً إلى الشعر وليس ضدّه.

هنالك علاقات تناص مع آخرين، ولكنني التقطتُ ما أعتقد أنه الفضاء الأكثر هيمنة على تجربة صاحب العشرين، الفضاء الذي يعيه تماماً. في لقاء سابق مع "العربي الجديد" هذا العام (في زاوية "صوت جديد")، يقول باسل ردّاً على سؤال عن جيله: "الجيل الذي أنتمي إليه وُلد بعد كلِّ شيء، أي أنه نتيجة لكل الأشياء التي حصلت وانتهت، من حروب وثورات وأعمال أدبية محلية وعربية.. أنا والعديد من الشباب المهتمين بالأدب والشعر، نحاول جاهدين ألّا نغرق في تلك النتائج أكثر، نكتب وكأننا نعوم في بحر كبير، نودّ أن نقفز إلى الحرية مثلما تفعل الأسماك".

وبكلمات مماثلة تقريباً، يتحدّث شارل عن الجيل الذي "عاش كل شيء.. جيل الحروب والثورات" الذي هو منه فيقول: "لم نكن حيوانات سياسية، كنّا مجرد حيوانات أليفة بيتية، خرجت إلى العراء، وضاعت وقُتلت وشُوّهت في الشارع حيث الدمار والموت". وبعد أن انتهى كل شيء نجده يستعيد ويتذكّر في بيته العابر في قبرص أياماً كان الموت فيها - على تعبير محمد حجيري وهو يكتب عن قصصه القصيرة، حرب شوارع - "موتاً جميلاً أو موتاً غير حقيقي مثلما هو في طقوس الرسوم المتحركة".

توحي هذه المقارنة بين النصّين فوراً أن صاحب العشرين يحاكي البراءة ذاتها التي عبّر عنها شارل بتعبير "لم نكن حيوانات سياسية"، بأخذه لهذه المقولة إلى مدى أبعد، إلى مدى يحاول فيه ألّا يغرق في زمنٍ وحدثٍ خرج فيه الجيل السابق إلى العراء وضاع وقُتل وشُوّه في الشارع.

الشارع الذي يسير فيه الآن وهو يكتب مختلفٌ، إلّا أنَّ نصّه يظل على تماس مباشر مع نصّ ذلك الخارج من كل هذا العراء، ذلك الذي حاول أن يكون ملموساً وواقعياً وحيّاً ملء الحياة، ذلك الذي يقول إنه أراد أن يقلّده.

وبالفعل، يمكن أن نجد قرابةً مدهشة بين الاثنين على عدة أصعدة؛ صعيد الاهتمام بالسينما والبسيط النادر الذي يمر بنا كل يوم وقد لا يلفت نظرنا كشعراء لاعتقادنا أن الأمور "العظيمة" هي مأتى الشعرية، لا أن يقول شاعر العشرين: "ما زلت أنظر إلى نفسي"، أو "أريد أن أحلم"، أو "لا أجد في الليل/ بعد أن تطير الفراشات من يدي/ سوى أنني حيث أنا حيث بدأ الكون".

هذه هي الخلفية إذاً، خروج حيوانات أليفة بيتية غير سياسية إلى العراء وتعرُّضها إلى ما تعرّضت إليه. وبعد أن ينتهي كل شيء، ما سيجعل الشعرَ شعراً شيءٌ آخر؛ العودة باللغة إلى حالتها النقية، مثل قطعة خشب لم تلمس بعد، وبالحياة كما لو أننا نبتكرها، برفقة الغيمة والفراشة والأيام الضئيلة و"العمر المليء بالحكايا والزهور". فنقول ولو مواربة ورمزاً وإيماءً: "لم يكن علينا أن نولد هناك". وبهذا النوع من البساطة النادرة ولكن العميقة المتموّجة بالمعاني يكتب صاحب العشرين:

"أنا كنتُ لا أنام أبداً
وكل الذين غفوا قبلي
رحلوا هكذا كمطر صيف سريع
وأنا وحدي ولدٌ يبكي في زاوية هذا العالم
يجلس القرفصاء
ينتظر أن تحرسه غيمة وحيدة فوق رأسه
يودّعها حين تنام".

المساهمون