"الخطر السوسيولوجي": علم الاجتماع وأعداؤه

"الخطر السوسيولوجي": علم الاجتماع وأعداؤه

04 يونيو 2019
(غرافيتي في باريس)
+ الخط -

بترجمة أنجزها الباحث المغربي حسن احجيج، صدرت مؤخراً النسخة العربية لكتاب "الخطر السوسيولوجي.. في نقد خطاب الحتمية الاجتماعية" وهو عمل مشترك أنجزه عالِما الاجتماع الفرنسيان جيرالد برونير وإيتيين جيان.

حين صدر هذا الكتاب في 2017، بدا وكأنه جزء من سجال تعرفه في فرنسا الألفية الثالثة، يتمحور حول سؤال أنطولوجي بالنسبة إلى علم الاجتماع: ما الجدوى مِنه؟ صحيح أن سؤال الجدوى هذا ليس جديداً، فطالما لازم علماء الاجتماع، فطفقوا ينظرون في مهامهم العلمية والمجتمعية، على ضوء كل مرحلة تاريخية يعاصرونها، لكن يبقى للسؤال راهنيّته.

يقف علم الاجتماع في اشتباك دائم مع الواقع المجتمعي في تحوّلاته المستمرة، وعلى صعيد آخر يقف أمام مساءلات السوسيولوجيِين أنفسهم، في علاقتهم بسوسيولوجيّاهم أو في علاقتهم بالمنظومة المعرفية السوسيولوجية ككل، وهذا ما يفعله مؤلفا كتاب "الخطر السوسيولوجي" الصادرة ترجمته عن "مؤسسة عبد العزيز" في الدار البيضاء.

يرى المؤلفان أن علم الاجتماع مسرح لحرب إبيستيمولوجية (وسوسيولوجية) ضروس بين المدارس والاتجاهات، سواء حين يتعلّق الأمر بالموضوع أو بالمنهج، أو بخصوص المفاهيم والنظريات. يختصر المؤلفان الصراع بين السوسيولوجيات إلى صراع بين قطبين: سوسيولوجيا حتمية وسوسيولوجيا تحليلية.

من جانب آخر، يلاحظ برونير وجيان الانحسار المستمر الذي تشهده السوسيولوجيا في مختلف المجتمعات الأوروبية، في ظلّ تزايد الأصوات المنادية هنا وهناك بإقصاء السوسيولوجيا أو تهميشها في بعض السياقات، وصولاً إلى الدعوة إلى استئصالها، ويأتي ذلك ضمن تزايد الشعور بخطورة هذا الحقل المعرفي على الأنظمة السياسية، كما تصعّد هذا الخطاب النزعات المحافظة والأصولية التي زاد انتشارها في العقود الأخيرة، إضافة إلى أن التخويف من علم الاجتماع كان دائماً جزءاً من مقولات النزعات البراغماتية التقنوية حيث تشير إلى لانفعيته، ومعها نجد نزعات عِلمية وضعانية تقول بلاعِلميته، وفي كل ذلك يبدو أن علم الاجتماع يدفع ثمن حسِّه النقدي من ناحية وثمن الصورة النمطية المكرّسة عنه مِن ناحية ثانية.

بحسب المؤلفين، لا يكمن الخطر السوسيولوجي في ما يسمى بـ"مشروع استئصال العلوم الاجتماعية" في حد ذاته، باعتبار أن هذا المشروع ليس ضرباً مِن ضروب الأيديولوجيا الرجعية التي تعتمدها الأنظمة السياسية التوتاليتارية فحسب، بل يحضر الموقف ذاته في الأنظمة الأكثر ديمقراطية كما هو الحال بالنسبة إلى دولة أوروبية كسويسرا، أو كما هو الأمر في دولة آسيوية كاليابان.

ولا يكمن الخطر المحدق بالسوسيولوجيا ومجالات عديدة من العلوم الاجتماعية في هذه الإرادات الخارجية لاستئصالها فحسب، بل أيضاً هناك خطورة تأتي من المعرفة السوسيولوجية ذاتها، حيث يشير المؤلفان إلى وجود عناصر تهديد لعلم الاجتماع موجودة أيضاً في الخطاب المعرفي الذي ينتجه بنفسه. فماذا يوجد داخل أيّ خطاب سوسيولوجيّ؟ يشير برونير وجيان إلى أن علم الاجتماع مسكون بخطاب الحتمية الاجتماعية.

طالما قدمت سوسيولوجيا كهذه نفسها كسوسيولوجيا نقدية مما جعلها تنحرف إلى حدّ ما عن وظيفتها العِلمية. وهنا يحقّ لنا أن نتساءل مع المؤلفين: هل نحن فعلاً أمام سوسيولوجيا نقدية أم إيديولوجيا مقنّعة؟ إنّنا والحالة هذه أمام سوسيولوجيا مقنّعة أو لنقل أمام إيديولوجيا تتكلم باسم السوسيولوجيا. وبذلك يصبح الخطاب العلمي بعيداً كل البعد عن النقد الإبيستيمولوجي المطلوب.

لم يتوقف الباحثان عند هذا الحد، بل حاولا أن ينبّها أيضاً إلى خطر آخر، ألا وهو الانزلاقات الميتافيزيقية للعديد من السوسيولوجيين المعاصرين، خصوصاً ما يُعرف بسوسيولوجيِّي ما بعد الحقيقة، وهم اليوم الأبرز على الساحة. يتعلق الأمر هنا بأشهر أسماء علماء الاجتماع: إدغار موران وميشيل مافيزيولي. فهما بحسب المؤلفين أقرب ما يكونان إلى ميتافيزيقييْن أكثر من كونهما سوسيولوجييْن، بما يحمل خطابهما من ترسيخ للحتمية الاجتماعية وعودة دائمة إلى الأب المفقود: إيميل دوركايم.

في مقابل خطاب الحتمية أو بالأحرى السوسيولوجيا الحتمية، يقدّم لنا الباحثان، بعد انتقاد الأسس والمنطلقات التي يقوم عليها خطاب كهذا، مقترحاً بخطاب سويسيولوجي لا حتمي، ومن ورائه سوسيولوجيا لا حتمية. يتعلّق الأمر هنا بسوسيولوجيا تحليلية من حيث الأسس والمنطلقات الإبيستيمولوجية التي تقوم عليها، موضوعاً و منهجاً.

تحاول هذه السوسيولوجيا البديل أنْ تعود إلى ما ينبغي أن تكونه السوسيولوجيا: إعادة الاعتبار للفرد باعتباره فاعلاً اجتماعياً، و ليس مجرّد دمية في يد المنظومة. إنّها سوسيولوجيا فهمية بالمعنى الفيبري (نسبة لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر) للعبارة، تقوم على التأويل السوسيولوجي، ولا شيء غير التأويل.

هكذا يمكن أن نعتبر الكتاب مانيفستو لسوسيولوجيا لاحتمية تقوم على التقليد الفيبري وما يسمى بالفردانية المنهجية من ناحية، وعلى العلوم المعرفية والدماغية من ناحية ثانية. وهذا الطرح كفيل بحسب برونير وجيان بمجاوزة السوسيولوجيا لذاتها.

على ضوء ما يشهده العالم المعاصر من تعقيدات، سواء اتخذت صفة ما بعد الحداثة أو صيغة ما بعد الحقيقة، فإن السوسيولوجيا اليوم أكثر من أي وقت مضى باتت موضع تساؤل مستمر، بعبارة أكثر حدّة باتت السوسيولوجيا في موضع أزمة، في ما يخص نفعيتها و جدواها من جهة، وعلمية روحها النقدية من جهة أخرى.

يأتي ذلك ونحن نشهد اليوم نماذج متنوّعة من السوسيولوجيا فيها آثار من الأخطار التي تحدّث عنها الباحثان الفرنسيان، ففي كثير من المواضع نحن حيال خطاب سوسيولوجي ذي طابع ميتافيزيقي، وآخر يؤمن بالحتمية بشكل دوغمائي، والأسوأ من هذا ظهور سوسيولوجيا تقنوية، بعيدة كل البعد عن المهمة العلمية للسوسيولوجيا المتمثلة في الفهم العلمي للوقائع والأفعال الاجتماعية التي باتت اليوم أكثر تعقيداً مما مضى، وبالتالي أصبح المجتمع أحوَج إلى السوسيولوجيا أكثر مما مضى. أحوج إلى أيّ سوسيولوجيا؟ سوسيولوجيا تأويلية؛ سوسيولوجيا تحليلية، هكذا يلحّ كل من برونير وجيان.

المساهمون