أمجد ناصر.. الطريق إلى "مملكة آدم"

أمجد ناصر.. الطريق إلى "مملكة آدم"

27 ابريل 2019
(الشاعر)
+ الخط -

في مجموعته "حياة كسرد متقطع" (2004)، كان اليومي والمعيش هما محور الكتابة والحياة لدى الشاعر الأردني أمجد ناصر (1955)، يلتقط قضايا تبدو صغيرة وهامشية ويتناولها بنبرة خافتة تتسق مع مراجعاته لمرحلة كاملة شهدت انهيار الواقع وفق تفسيرات أيديولوجية سقطت أيضاً.

مرّت أشياء كثيرة خلال عقد ونصف، وأثمرت كتاباً بعنوان "مملكة آدم" صدر حديثاً عن "منشورات المتوسط – إيطاليا"، والذي يلتقط فيه إحدى أكبر مآسي العصر التي تعيشها سورية، ويتفكّر في هموم وجودية حيث الصراع بين الخير والشر، والجمال والقبح، يعود ليشكّل متن النص وأسئلته.

تتكثّف أفعال الحيرة ومفردات التيه في نصوص المجموعة، والتي تحيل إلى عصر الظلامات الجديد الذي نحياه اليوم ويتجسّد طغاة وفساداً وذعراً، فنلوذ إلى القصيدة "ذلك البرق في الليل" كما يصفها بودلير، أو "تلك النقاط المضيئة في عتمة الماضي"، كما يقول عزرا باوند.

وهنا يتكلّم أمجد ناصر متشبثاً بأمل خفي ما دام هناك من يسير معه في هذه العتمة، حتى لو لم يرهم وظلّت نهاية الطريقة ملغزة، فهو يمضي بنفَسِهم، وبقلبه، وبكرامة من الأولياء القدامى؛ يمضى بحدوس الشاعر وإيمانه بقوله/ رسالته، كما يدّون في أحد المقاطع:

"أخطو في هذا الليلِ/ التيهِ
كَمَنْ يتوقّعُ أيَّ شيءٍ من قلبِ الإنسانِ/
صدري مفعَم ٌبخضرةٍ دائمةٍ /
لا بدّ أن هناكَ مَنْ يخطو مثلي في أمكنةٍ أخرى/
لستُ وحيدًا في هذا الليلِ الجامعِ/
بقَدَمَيَّ الملفُوفَتَيْن بخرقةِ الأولياءِ القدامى
أدوسُ الرملَ،
الحجرَ/
العوسجَ/
الذهبَ الخامَ/
الترابَ المرتابَ/
فَمَنْ يعرفُ أيَّ شيءٍ يدوسُ المرءَ في الليلِ التامِّ/
العمى ليس مرضًا في العَينَيْن
بل ضعفٌ في عضلةِ القلبِ/
أخطو إلى هذا الليل ِوفي يدي دليلُ الحائرينَ/

أسمعُ مَنْ يقولُ: تفضَّلْ، اجلسْ معنا تحتَ هذه النجمةِ الضَّالَّةِ/ لِمَ العجلةُ؟/ الحيُّ يُؤنِسُ الميتَ/ والطريقُ أطولُ من ثلاثةٍ نهاراتٍ، تفصلُ بينها ثلاثُ آبارٍ، عليها ثلاثةُ غربانٍ، في منقارِ الأوّلِ حبَّةُ خردلٍ، وفي منقارِ الثاني حبَّةُ قمحٍ، وفي منقارِ الثالثِ لؤلؤةٌ.

على أن الاختلاف بين القصيدة في "حياة كسرد مقتطع" و"مملكة آدم"، لا يجعلنا نفقد الترحال الدائم باعتباره المرجعية الأولى لصاحب "وصول الغرباء" (1990)، حيث يظلّ علامة وإشارة دالةً على ماهية التفكير والمسير، فليس هناك من بداية محدّدة ولا نهاية مختومة، وليس هناك من حقيقة مطلقة ولا معنى مكتمل، إنما هي متتالية اللغة والتنقّل والحيوات في القصيدة/ الحياة، كما يسجّل في قصيدة "أغنية نفسي":

كنتُ يومًا هذهِ الورقةَ التي تَسقطُ في بُطءٍ،
الغصنَ الصامدَ في وجهِ الريحِ،
الوردةَ التي أنكرتْ نفسَهَا عندما قدَّمَها الخريفُ
إلى مُلهمتِهِ الصهباءِ،
النمرَ الذي يظنُّ أنَّه حُرٌّ فيما هو في حديقةٍ مُسيَّجةٍ،
الأَرَضَةَ التي تأكلُ المهدَ والصولجانَ،
الترابَ الذي يَتفتَّتُ في أصيصِ جيرانيوم
لم تعدِ اليدُ التي اعتادتْ سقايتُهُ موجودةً،
القاربَ الذي خرقَهُ رجلٌ صالحٌ
لأنَّ مَلكًا في الأرجاء يأخذُ كلَّ سفنيةٍ غصبًا،
العينَ التي أطفأتْ قنديلَهَا بعدما رأتْ ما رأتْ،
الوجهَ،
الذي صارَ قناعًا
لحقيقةٍ غاصتْ بين الضِّلعِ والنبضةِ ولا أملَ في استردادِ زيتِ ولادتِها المراقِ..

يقول الناقد والمترجم السوري صبحي حديدي في تقديم الكتاب "تجهدُ "مملكة آدم" كثيراً لكي يتماهى القارئُ مع جحيمِها، ولكي يكونَ شريكاً في إعادةِ إبصارِ أهوالِهِ، بوصفها سمةَ عصرِنا، وليست نتاجَ ابتداعِ مخيّلةٍ أو أسطورةٍ أو نصٍّ دينيٍّ. وهذا، تالياً، عملٌ شِعْرِيٌّ فريدٌ، لا يُقرَأ فقط، بل يُبصَرُ عيانياً ومسرحياً وسينمائياً؛ ويُسمَع أيضاً، واستطراداً، لأنّ عماراتِهِ الإيقاعيةَ لا تُدغدغُ الآذانَ على عجلٍ، ولا تضخُّ الأناشيدَ قارعةً مُنذِرَةً. إنه بيانٌ شِعْرِيٌّ رفيعٌ، فَذٌّ وجارحٌ واختراقيٌّ، لكنه أيضاً رهيفٌ وجدانياً، ونبيلٌ إنسانياً، ومُنحازٌ أخلاقياً؛ يتوغَّلُ عميقاً في أنساقِ الفظاعاتِ التي باتتْ صنوَ الجحيمِ البشريِّ الأرضيِّ، وصارت المأساةُ السُّوريَّةُ مثالَهَا الأوّلَ، وأمثولَتَها العليا".

ويشير الشاعر اللبناني عبّاس بيضون في قراءته "نحنُ هنا في حربِ الإنسان مع نفسه وحربه مع قدره، وحربهِ مع الكون، ومع تهاوي معناه وصيرورةِ كلِّ شيءٍ إلى نفي عارم". يضيف "في مُطوَّلته الملحمِية يخوض أمجد ناصر بالكلماتِ المُحْكَمة، ما يمكن أن يكونَ عمارةً من النِّهاياتِ ومن المصائر والأقدار. إنَّه في معركةٍ كونية، في سِفر كوني وفي صراع بين الأركان والمصائر، وبين المعاني واللاَّمعاني، وبين الوجود واللاَّوجود لدرجةِ أن هذا النَّص يبْني على الريح معركة سديمية وبلا حدود. إنَّنا فعلاً في قلب الملحمة، ولو أنَّ نصَّ أمجد ناصر قصير بالقياس إلى الملحمة إلاَّ أنَّ كونية هذا النص تُوازي ملحمةً كاملة، بل إنَّ تقاطُعاتِها وقدرته على النَّفي والكتابة بالسّلب، الكتابة بالخواء المُحْكَم، تجعلُ من النَّص في سويته واستقامَتِه وتناسُقِه وامتداده طابقاً بعد طابق وركناً بعد ركن معماراً حقيقياً وملحمة موجزة".

المساهمون