صدر قديماً: عبد المحسن طه بدر.. إنسانية تُحرر الأدب

صدر قديماً: عبد المحسن طه بدر.. إنسانية تُحرر الأدب

26 ابريل 2019
(بدر بجامعة القاهرة، 1958، الخامس يمين الصف الثاني)
+ الخط -

مع أن كتاب "حول الأديب والواقع" للناقد والأكاديمي المصري عبد المحسن طه بدر (1932 - 1990) صدر عام 1971، إلّا أنه ضمّ إليه، في طبعته الثانية، ثلاث مقالات من قديم ما كتب حيث ترجع إلى عام 1956؛ أبرزها مقال "الشعر العربي والتجربة الإنسانية"، وكان مقالاً لافتاً للنظر طرح فيه المؤلّف فروضاً مهمّة لم تُختبر كما يقول "اختباراً علمياً كافياً".

أسف الكاتب وهو يعيد نشرها، لأن الكثير من فروضه ما زال في الوضع نفسه، ولاحظ "أن فروضاً مضادّة تُطرَح منذ سنوات في مجال حياتنا النقدية، وكأننا سنظل باستمرار في مرحلة طرح الفروض والفروض المضادة، من دون القيام بما يفرضه طرح هذه الفروض من ضرورة اختبارها علمياً، لتصبح دراسات علمية جادة، ينشأ عنها تأصيل نقدنا أو ظهور مدارسه المتميزة بدل اللهاث المستمر المحموم خلف ما تطرحه علينا الثقافة العالمية، مما لا يدع لنا فرصة للتجريب والتأصيل".

حين نشر هذا المقال للمرة الأولى على صفحات مجلّة "الآداب" اللبنانية، وقبل أن تضمّه صفحات الكتاب المشار إليه، قدّمه رئيس تحرير المجلة، سهيل إدريس (1925 - 2008) بالكلمات التالية: "يكشف هذا المقال عن تقييم جديد للشعر العربي، قديمه وحديثه، لا ينقصه العمق.. والجرأة. والآداب إذ تنشر هذا المقال تاركةً مناقشته للأدباء ونقّاد الشعر منهم بصورة خاصة".

ولم تحدث هذه المطالبة ما تمناه صاحبها من نقاش، وبدلاً من ذلك واجهت المقالَ ردودُ أفعال عاصفة أقلّ ما يُقال فيها أنها أساءت فهم فروض المقال ونسبت إلى كاتبه ما لم يقله، فظهر أشبه ببذور أُلقيت في أرض قاحلة ولم تسقط عليها قطرة مطر فظلّت مهمَلة منسية.

بين المقالات الثلاث، ضمّ الكتاب مقالاً عنوانه "الأدب والتجربة"، كان شبه تقديم للفروض الرئيسية التي تضمّنها مقال "الشعر العربي والتجربة الإنسانية"، وبجواره ضم الكتاب عدداً من الدراسات التطبيقية جاءت في وقتها أيضاً كما لو أنها توسيع للدائرة ذاتها؛ علاقة الأدب بالتجربة، تناول أحدها مجموعة شعرية لنزار قباني تحت عنوان "بين صوت الشاعر وصوت الواعظ"، وتناول آخر رواية لـ مطاع صفدي المسماة "جيل القدر" تحت عنوان "فرض الذات على الموضوع"، وقدّم المقال الثالث ملامح من تجربة فدوى طوقان تحت عنوان "بين الانغلاق والانفتاح".

ولأن الدائرة الجامعة لكل ما تناولته هذه المقالات هو التركيز على واستكشاف إنسانية الشعر العربي، والأدب بعامة، سنكتفي بعرض لأهم خطوط المقالة التي كانت فروضها في وقتها تستحق "الاختبار العلمي" لفتح فرصة للتجريب والتأصيل النقدي.

في مقال "الأدب والتجربة" التمهيدي محاولة للتأكيد على مفهوم التجربة في الأدب، شعوراً من الكاتب، كما يقول "باختلاط القيم في مجتمعنا العربي.. وبالحاجة إلى تكوين قيم جديدة حقيقية نابعة من الوعي الصادق بوجودنا الحقيقي والحي". وفي رأيه أن السبب يرجع إلى أننا وجدنا أنفسنا "في اتصالنا بالحضارات الأخرى وجهاً لوجه أمام خضم وافر من القيم والمفاهيم نشأت في بيئاتها ومقدمة إلينا للاختيار والمفاضلة بينها.. وهذا ما أحدث أزمة حرجة للمفكر العربي، فهو في معرض الاختيار والمفاضلة لا ينتبه إلى حقيقة خطيرة أشد خطورة، هي واقع المجتمعات العربية نفسها، وفي أي مرحلة من المراحل الحضارية تعيش".

ثم ينتقل الكاتب في مقالته الرئيسية، عن "إنسانية الشعر العربي"، إلى طرح فروضه الأساسية ومبدأها الأساسي أن إنسانية الشعر شرطها تحرّر الشاعر تحرراً "ذاتياً كاملاً يسمح له بإدراك الجوانب الخفية والعميقة من الحياة". وفي ضوء هذا الشرط، يقرأ المراحل التي مرّ بها الشاعر العربي منذ العصر المسمّى بالجاهلي وصولاً إلى العصور الحديثة، فيرى أن الشاعر العربي لم يُتَح له يوماً أن يتحرّر التحرّر المنشود، وهذا يُرد إلى أسباب خطيرة ترتبط بماضيه البعيد وحاضره.

بدايةً يرى أن مبدأ كون الشاعر "لسان القبيلة" يحمل دلالة ذات خطورة عظمى، لأنه "يدل على أن للشاعر وضعاً اجتماعياً معيّناً في القبيلة هو الدفاع عن مُثلها القائمة وتثبيت المُثل والترويج لها. والخطورة هنا أن الشاعر كان منفعلاً لا فاعلاً"، أي أشبه بإنسان خاضع لمنعكسات شرطية شبه غريزية. هذه المثل، كما يقول، "كانت تقف حائلاً بين الفرد واكتشافه لذاته واكتشاف ذاتية الأحياء من حوله، وتحدث الشاعر عن الأشخاص الذين يمثلون قيماً اجتماعية قبل أن يتحدث عن الذين يمثلون قيماً إنسانية".

ويصل إلى أن هذا "استتبع أن الشعر في مجموعه اتجه إلى الحديث عن المسلّمات الاجتماعية والأحكام العامة، ولم تكن هذه الأحكام تخضع لتأمّل ذاتي نقدي من الشاعر، واختفت لذلك التجربة الإنسانية الكاملة من الشعر العربي، فما دام الشاعر لا يرجع إلى ذاته في الانفعال أمام الحادثة فلن تكون حادثة ما بلون ذاتي خاص".

ويشير الكاتب إلى أنه يتحدث هنا عن التيار العام في الشعر العربي، ولا ينكر أن هذا التيار "كان يهتز بعض الشيء نتيجة لضربات بعض الشعراء لأسباب ذاتية خاصة، كما نجد عند المتنبي مثلاً الذي حاول رفض مسلّمات مجتمعه، وكما نجد عند ابن الرومي وأبي العلاء المعري نتيجة غربتهما في بيئتهما".

هذا الحكم العام يسحبه الكاتب على عصور الشعر العربي اللاحقة، وصولاً إلى العصر الذي "لم تعد فيه الصورة تعتمد على واقع شعوري بل على الشعوذة، نظراً لارتباط الشاعر بالصور القديمة، واعتمدت الصورة على العلاقة المنطقية قبل اعتمادها على الإحساس الشعوري، فلا بأس أن تكون الوردة مثل الدم ما دامت العلاقة اللونية موجودة، ولا بأس أن تكون دموع المرأة الباكية مثل اللؤلؤ ما دام اللؤلؤ أبيض صافياً.. أما العبث بالألفاظ فقد اتجه إلى هذه الوسيلة التي يسمونها المحسنات البديعية، وبين هذين التيارين رقد الشعر العربي رقدته الأخيرة حتى عصر البعث الحديث".

ولكن الكاتب، وهو يصبّ حديثه عن النهضة الحديثة على البيئة المصرية معتذراً بأنه أشدّ خبرة بها، لا يعتقد أن هذا ينطوي على أخطاء كبيرة "لأن الظروف التي تمر بها الأقطار العربية تبدو متشابهة من النظرة العامة"، فضلاً عن ذلك نجده يلاحظ أن النتائج التي توصل إليها لا تشمل الشعر العربي في المهجر لأن شعراءه كان لهم حظ كبير من التحرّر الذاتي.

ويقدّم بضع ملحوظات يرى فيها أن النهضة العربية الحديثة بسبب الاصطدام بالتبشير والاستعمار اتخذت صورتين؛ بعث الأمجاد القديمة والتبشير بالمستقبل. واشتد التمسك بالقديم ومسلّماته. ولم تخرج خصائص مدرسة حافظ إبراهيم الأشبه بالخطيب، وأحمد شوقي الواعظ، حسب تعبيره، "في كثير عن الاتجاه العام للعصر العباسي مع بعض المبالغة والتقصير هنا وهناك". ثم تبع ذلك التحرر العقلي بعد الاطلاع على "مدنية الغرب"، الذي سبق التحرر النفسي المرتبط بالحياة العاطفية؛ "حيث تشدنا العقائد الموروثة الضاربة في الأعماق إلى نفسها.. ولعل هذا التحرر النفسي الكامل هو الذي ينقص الفرد العربي الآن".

وفي رأيه أن عباس محمود العقاد مثّل مرحلة التحرّر العقلي في الشعر، إلا أن خضوع شعره للمنطق العقلي جعل شعره يخلو من التجربة الكاملة، ويقدّم ما يرى أنها "ملحوظة جديرة بالاهتمام في شعر العقّاد، وهي خلوّه إلى حد كبير من الصورة التي تُعتَبر دعامة للأسلوب الشعري، والتي يعمد كثير من النقّاد إلى التفريق بين الشعر والنثر عن طريقها".

وعن بقية الشعراء، من أمثال صلاح عبد الصبور، فيرى أنهم يقدّمون لأول مرة تجربة متكاملة.. غير أن هذه التجارب ما تزال بحاجة إلى التعمُّق والوصول بها إلى مسارات نفسية أشد عمقاً وسعة. وأصبح هذا الاتجاه الذي كان الكاتب يأمل "أن يصل بالشعر العربي إلى مرحلة التحرّر الكامل والتعبير الحر عن الواقع الإنساني ممثلّاً في تجربة حقيقية.. عرضةً للانطواء في التيار الجديد الذي أخذ يفرض على الشعر الجديد، قبل أن يكتمل تحرره، مفاهيم الاشتراكية والكفاح"، أي أشبه بمسلّمات جديدة.

ولا يرفض الكاتب إحساس الأديب بالمشكلات التي يضطرم بها مجتمعه، ولكنه يريد أن يكون هذا الإحساس عميقا قوياً وذاتياً غير مفروض من قوة خارجية. ويختتم بالقول: "الجدير بنا أن نطالب شعراءنا أولاً بالتحرّر الذاتي الكامل.. وعندها سيكون إنتاجهم وحده، وبدون أن نتكلف تقييدهم بالسلاسل، صورة صادقة لمشاكلنا".


ــــــــــــــــــــــــــ
في النقد الواقعي
وُلد عبد المحسن طه بدر في قرية السنطة الغربية في مصر سنة 1932. التحق بجامعة القاهرة سنة 1950، ثم عمل معيداً ورئيساً لكلية الآداب فيها، كما كان عضواً في حزب "التجمّع الوطني الوحدوي". برز اسمه في النقد الواقعي منذ أواخر الخمسينيات. من إصداراته: "تطوُّر الشعر العربي الحديث في مصر"، و"تطوّر الرواية العربية الحديثة"، و"الروائي والأرض"، و"نجيب محفوظ ـ الرؤية والأداة".

المساهمون