هارتفيلد مرة أخرى

هارتفيلد مرة أخرى

12 فبراير 2019
(موراكامي في بورتريه بألوان مائية)
+ الخط -

ليس في نيتي القول إنني لو لم أتعرّف على الروائي ديرك هارتفيلد فإنني لم أكن لأكتب روايات بتاتاً. ولكنني أعتقد أنه في تلك الحالة من المؤكد أني كنت سأسلك طريقاً مختلفة تماماً عن التي سرت فيها حتى الآن.

عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية، سبق لي أن اشتريت كمية من كتب هارتفيلد ذات الطبعة الشعبية، كانت موضوعة في مكتبة بيع كتب قديمة في مدينة كوبيه تركها على ما يبدو بحار أجنبي. كان سعر الواحد منها خمسين ين. لم أكن لأظن مطلقاً أنها كتب ما لم تكن موضوعة في مكتبة لبيع الكتب. كانت الأغلفة بالغة الزركشة قد نُزعت تقريباً وتغير لون الصفحات إلى اللون البرتقالي. على الأرجح أنها عبرت المحيط الهادئ وهي موضوعة كما هي فوق سرير بحار من الطبقة الدنيا في سفينة بضائع أو مدمرة بحرية، ثم جاءت من زمان بعيد جداً لتوضع فوق مكتبي.

بعد عدد من السنوات ذهبتُ إلى أميركا. كانت رحلة قصيرة لزيارة قبر هارتفيلد فقط. أخبرني بموقع المقبرة توماس ماكلير الباحث المتحمّس (والوحيد) لأعمال هارتفيلد من خلال خطاب أرسله لي. كتب لي قائلاً: "إنه قبر بارتفاع كعب حذاء حريمي عالٍ. كن على حذر من الفشل في العثور عليه".

ركبت باص غريهاوند الذي يشبه تابوتاً عملاقاً من نيويورك، ووصلت إلى تلك البلدة الصغيرة في ولاية أوهايو في الساعة السابعة صباحاً. لم ينزل راكب واحد في تلك البلدة غيري. كانت المقبرة تقع في مكان يغطيه مرعى حشائش. كانت المقابر أوسع من البلدة ذاتها. فوق رأسي كان عدد من طيور القنبرة تطير صانعة شكل دائرة وهي تغني أغنية الرحيل.

بحثتُ عن قبر هارتفيلد لمدة ساعة كاملة حتى عثرتُ عليه. توجّهتُ إلى القبر بعد أن التقطتُ حفنة من الورود البرية المتربة النابتة في المراعي حول المقبرة ووضعتها على القبر، لامستُ كفيَّ تجاه القبر، ثم جلست أدخّن سيجارة. تحت أشعة الشمس اللينة لشهر مايو، أحسست بالراحة والسلام النفسي الذي يشبه تماماً الحياة والموت. رقدت على ظهري وأغمضتُ عيني، وظللت لساعات طويلة أسمع أغاني العصافير.

لقد بدأت هذه الرواية في مكان مثل هذا. ثم لم أكن أنا أيضاً أعلم إلى أين ستصل؟
يقول هارتفيلد: "إن قارنا بتعقيد الفضاء، فإن عالمنا هذا يشبه مخ الدودة".
تمنيت أنا أن يكون الأمر كذلك.

في النهاية أذكر أنني في ما يتعلق بما سجلته عن هارتفيلد فقد اقتبست كثيراً من العمل الذي ألفه ماكلير سابق الذكر والذي بُذل فيه جهد مضنٍ: "أسطورة النجوم العقيمة" (1968) فله مني كل الشكر.

(مايو 1979)


* خاتمة أول روايات هاروكي موراكامي "اسمع أغنية الريح"، والتي انتهى من ترجمتها مؤخراً عن اليابانية ميسرة عفيفي وتصدر قريباً عن "الآداب"

المساهمون