مبارك الراجي: كينونة في القصيدة

مبارك الراجي: كينونة في القصيدة

08 سبتمبر 2018
(مبارك الراجي)
+ الخط -

كيف يستطيع الشعر أن يمنح السلام لقلب الشاعر كي يجنح إليه من ضراوة العالم؟ وكيف أمكن لشاعرٍ أن يعود من ممشى طويل أودى به إلى اللانهائي، ثم عاد كي يكتب عن اللاشيء ولظلّه؟ هل تستطيع القصيدة أن تتحوّل إلى "كيمياء وجود الشاعر"، إلى حدّ تُمسي الكتابة فيه "عالماً بديلاً"؟ ثمّ كيف أمكن للقمر أن يتلبّس الشاعر في الأجرام النائية، بعيداً عن أرض لا تصلح للحياة؟

في مجموعته "شذرات نائية من كتاب الغربان"، الصادر حديثاً عن "دار الفنك"، يذهب مبارك الراجي بالشعر إلى هذه الأسئلة المتمنّعة؛ حيث يبدو الشاعر المغربي متفرّداً في عالمه. أمّا حين تكون المجموعة خروجاً من عالم أضحى فيه المنطق والعقل مقابلَين للجنون، فستصير كينونة الشاعر أكثر ميلاً إلى التفرّد.
"لا يقين تماماً
وبكثير من الشك
أنا المفرد الغفير"

يخطّ الشاعر كينونته من الداخل.. يُقرّب القارئ منها، لكن من دون أن تبدو ملامحها ملموسة؛ إذ نقرأ العالم الداخلي لشاعر هدّه العالم، فاختار أن يبني عالمه الخاص داخل القصيدة. قصيدتان وسيرة واحدة، وجهان لـ "المشرد الجميل" الذي اختار أن أن يكتب قصائده لـ "اللاأحد"، أن يكتب، وهو في الهوّة السحيقة، سيرة "الرماد" و"الحارس"؛ حيث هو وظلّ كلبه "صولو" الغائب. معاً جاءا إلى هذا العالم عن طريق الخطأ:
"واجبنا الليلة يا صولو
أن نصغي إلى الموسيقى
لأننا جئنا معاً
من الشوارع الباردة إلى الحب".

لا يتوقّف الشاعر عن الحكي. إنه لا ينشغل بالصور ولا بالصياغات المتكلّسة، ولا يهمُّه أن يفتح أبواب شعره على الشرق أو على الشمال. ظلّ مبارك الراجي يكتب سيرته الخاصة، في مدينة لا تعرف إلّا "النوارس والريح". يرتبط بالمكان وبمجازاته أيضاً، تلبّس به إلى حد جعله يعيش جنونه أيضاً.

وحين يمرّ الشاعر إلى مرحلة "الشك الكبرى"، حين تسقط أمامه كل اليقينيات، تصبح اللغة غير قادرة بالمرّة على الاستجابة لندائه الداخلي. حين لا تستطيع القصائد أن تخرج من جبّ "اللاأحد"، يعود الشاعر إلى "كينونته" كي يعيد تشكيلها شعرياً من جديد: "أقول إن قلبي غراب يريد أن يطير خارج قفصه الصدري حيث تناديه الغابة الزرقاء البعيدة...".

يكفي أن يكتب الشاعر "شذرات من أبدية الحيرة والسواد".. يكفي أن ينادي: "أيتها الغربان السود الكبيرة رفرفي فراشات صغيرات في دمي"، حتّى يصبح الشعر أقرب إلى عالم مواز، لعالم "قتل الشعراء والشعر". هكذا، تصبح كينونة الشاعر هي استعارته في القصيدة: "لا وطن، لا فكرة، لا شيء بالمرّة".

يختار تشكيل عالم أقرب إلى "السوريالي"، بجنون الشاعر نفسه. يختار أن يذهب بنفسه إلى "الممشى" الاختياري، أن يكون وحده مع بعض شظايا ذاكرته وطفولته، وكلبه "صولو"، وحياة لا يعرف بالمرّة كيف يخطها.

يتكرّر حضور القمر في ديوان "شذرات نائية" بشكل لافت، حتّى أنه يتلبس الشاعر ويجعله شاهداً عليه، هناك في الأجرام البعيدة بديل لهذه الأرض التي لا تصلح للحياة. حيث أمسى العالم معرّضاً للإفلاس النهائي، وقدر الشاعر أن ينبّهنا دائماً إلى ضرورة أن نحافظ على إنسانية الإنسان، التي تكاد تُمحى اليوم.

مجموعة "شذرات نائية" تجربة خاصّة في الشعر المغربي الحديث، تمتلك صوتاً مفرداً وتصوّراً خاصّاً. لا يكتب الشاعر من مرجعية تقترب من المنجز الشعري المغربي، بقدر ما يؤسّس لأفق خاص. في قصيدته "ماذا لو أحدثنا ثقباً في طبل الحرب؟"، يرسم صورة سوداوية للعالم اليوم، بدون خطابات فجّة أو تقريرية، ولا أساليب لغوية ألفناها في الكتابات الشعرية. رؤية تجعلنا نتساءل في النهاية: هل بإمكان الشعر أن ينقذ العالم؟

المساهمون