الطبّاخ وشجيراته

الطبّاخ وشجيراته

25 مايو 2018
تجهيز للفنان الهندي سوبود غوبتا
+ الخط -

لم يكن الطهي مهنة مارافان فحسب. الطهي عشقه الكبير. حتى عندما كانت العائلة كلها ما زالت تعيش في كولومبو، كان يقضي معظم وقته في مطبخ نانجاي. كان كلا الوالدين يعملان في أحد الفنادق الكبيرة في المدينة، الأب في الاستقبال، والأم مشرفة على عمّال نظافة الغرف.

أما الجدة فتهتم بالأطفال عندما لا يكونون في المدرسة. ولأن مارافان لم يكن يذهب إلى المدرسة بعد، كانت عمته الكبرى نانجاي تأخذه معها في بعض الأيام إلى العمل حتى تستطيع أختها إنجاز العمل المنزلي والمشتريات. في مطبخ المنزل الكبير، كانت تعمل تحت إمرة نانجاي ست مساعدات. إحدى هؤلاء كان لديها دائماً وقت لترعى شؤون الصغير.

وهكذا كبر بين الطاسات والطناجر، والتوابل والأعشاب، والخضر والفواكه. كان يساعد في غسيل الأرز وتنقية العدس، وتقطيع جوز الهند إلى شرائح، وقطف أوراق الكزبرة؛ وفي عمر الثالثة سُمح له تحت إشراف العاملات في المطبخ بتقطيع الطماطم والبصل قطعاً صغيرة.

في عمر غض استولى السحر على مارافان عندما رأى الخطوات التي تحوّل بعض المنتجات الخام العجفاء إلى شيء مختلف تماماً، شيء لا يأكله الإنسان فحسب، ولا يشبعه ويغذيه فقط، بل قد يكون أيضاً مصدراً للسعادة.

كان مارافان يمعن النظر، ويسجل في عقله المكوّنات والمقادير وطرق التحضير والخطوات. في عمر الخامسة كان بمقدوره أن يطبخ قوائم طعام بأكملها، وفي السادسة، قبل أن يذهب إلى المدرسة، تعلم الكتابة والقراءة لأنه لم يعد يستطيع أن يحتفظ في ذهنه بكل الوصفات.

لعلّه اعتبر دخول المدرسة مأساة كبيرة، أكبر من وفاة الوالدين التي حدثت بعد ذلك بقليل والتي لم يعرف تفاصيلها إلا بعد أن وصل إلى مرحلة البلوغ تقريباً. كان والداه متغيبين أغلب الوقت، ولذلك اعتقد أنهما ببساطة لم ينتقلا معه إلى "جفنا". كانت رحلة فوضوية إلى هناك، هكذا أحس، أما بيت أقاربه، حيث عاشوا في الفترة الأولى، فكان صغيراً ومكتظاً. لم يكن عليه الذهاب إلى المدرسة، فكان يقضي أيامه في مطبخ نانجاي.

انبعث من الفرن بعض الدفء الذي سرى في جنبات غرفة المعيشة الصغيرة. نهض مارافان وسار إلى المطبخ. (...) وضع مقلاة على أصغر عيون الموقد، وصبّ فيها بعضاً من زيت جوز الهند، ثم فتح باب الشرفة. نوافذ المنازل أمامه كلها تقريباً غارقة في الظلام، أما الفناء الخلفي للمنزل الواقع أسفله فهادئ مهجور. لا تزال قطرات ثقيلة باردة تهطل من السماء. أغلق باب الشرفة تاركاً فتحة صغيرة.

في حجرة نومه أشكال وألوان من الأصص وبداخلها شجيرات الكاري، وبكل شجيرة عصا من البامبوس، وكل واحدة في عمر مختلف. وصلت أكبر الشجيرات حتى إبطيه. كان قد حصل عليها شتلةً قبل عدة سنوات من أحد معارفه السريلانكيين. ومنها استزرع أشجاراً كثُر عددها، فكان بين الحين والآخر يبيع واحدة وهو كاره، غير أنه لم يكن يجد مكاناً لها في الشتاء. لا تقدر الشجيرات على مقاومة الشتاء، ولذلك لا يضعها مارافان في شرفة المطبخ إلا عندما يسود الدفء، أما في الشتاء فكان عليه أن يضعها في غرفة نومه تحت ضوء المصباح الخاص بالنباتات.

كسر فرعين، نما في كل منهما تسع أوراق، وعاد إلى المطبخ، ثم ألقى بهما في الزيت الساخن، وأضاف عوداً من القرفة طوله عشرة سنتيمترات. شيئاً فشيئاً بدأ يشم أريجَ طفولته.


* مقطع من ترجمة لـ سمير جريس مقتطف من رواية "الطباخ" للكاتب السويسري مارتين زوتر وهو عمل سوف يصدر قريباً عن دار "الكتب خان" في القاهرة.

المساهمون