صدر قديماً: "أنت منذ اليوم" وكوابيس تيسير السبول الراهنة

صدر قديماً: "أنت منذ اليوم" وكوابيس تيسير السبول الراهنة

14 ابريل 2018
تيسير السبول
+ الخط -

"حين سُئل الزعيم إن كان له طلب أخير، أجاب "نعم". طوّح المجنون بيديه في الهواء، وبدا أنه يستعيد لحظة هائلة من خياله. - هل تعرف ماذا كان طلب الزعيم؟ - الحقيقة لا أعرف. - "نعم" قال الزعيم "هناك حصاة تحت ركبتي ارفعها" وانحنى العسكري صاغراً وأزالها".

هذا المشهد الذي ورد في رواية "أنت منذ اليوم" (1968) للكاتب الأردني تيسير السبول (1939 - 1973) في استحضار حالة التعلّق بالدكتاتور بعد الانقلاب عليه، والتي يعيشها المجنون في العمل؛ شخصية عابرة اختارها الروائي لتمثّل الفصام لدى الشعوب المقهورة التي لا تزال حاضرة حتى يومنا هذا.

أراد صاحب "أحزان صحراوية" أن يكثّف لحظة الانكسار التي واجهها الزعيم بعد نكسة حزيران، متمثّلة في إنكاره المطلق لكل الوقائع على الأرض، فهو لم ير قبيل إعدامه إلا حصاة تخزه فطلب ممن سينفّذ إعدامه أن يرفعها، وعندما أعاد "المجنون" تخييلها كان يصرّ على أن الجندي أزالها منحنياً صاغراً وهي ذات النظرة التي يرى بها نفسه.

مثّلت "أنت منذ اليوم" رداً مباشراً على هزيمة 1967 حيث صدرت في العام التالي. حدثٌ ترك آثاره العميقة في الثقافة العربية وتعبيراتها عن ذاتها الجريحة. لم يكن السبول بشخصيته القلقة بمنأى عن ذلك، بل ربما تلاقت الهزيمة السياسية والحضارية مع خيباته الشخصية والعاطفية، التي تدلّ عليها قصائده في تعبيراتها الحارّة عن حزنه ووحدته وتشظيه.

يتضمّن العمل شهادة كتبها الروائي في العاشر من حزيران، عقب الحرب مباشرة تُظهر تفاصيلها فداحة الموقف حيث عربات الجيش محطّمة محروقة، والجسر الذي يربط ضفة النهر الشرقية (الأردن) بغربها (فلسطين) محطّم أيضاً، ولا أثر للجنود، بينما كان المذيع في كل مكان (في تلميح إلى كذب الإعلام العربي حينها)، لا يريد أن يتوقّف عن الكلام.

لا تكتمل الصورة إلا باستدعاء ضابط المخابرات لبطل الرواية "عربي" ليوضّح له "أنهم غير مهتمين بإعادة النظر في ما يتعلّق بالإضبارات (المقصود ملفات المعارضين)"، مؤكّداً له أن "أحداً لا يحقد على أحد. وكلّ ما هناك (أنك لن تستطيع أن تجد وظيفة يا عربي. فكما تعلّم ضاع نصف وطننا)"؛ النكتة التي تختزل هزيمة كاملة أسفرت عن فقدان ما تبقّى من فلسطين عام 1967.

العبث هي المفردة المناسبة لوصف كلّ ما يجري، في مرحلة كانت الشعارات القومية تعلو فوق كل شعار، والتي تترجم على الأرض عجزاً ومهانة. ربما لم يتغيّر الحال بعد خمسين عاماً، وهو ما يصوّره السبول في حديث الحزبيين حول قضيتهم المركزية على النحو التالي: "كان الشباب منتبهين لموضوع الدعاية العالمية (ظهرنا للعالم وكأننا متوحشون، نلقي بالأطفال إلى البحر. يجب أن نركّز على إزالة الكيان العدواني لإسرائيل). ولكن كيف؟ لم يشرحوا الأمر بالتفصيل.

يُكمل: "بالطبع لم يكونوا يتحدثون طيلة الوقت عن فلسطين. فهناك الورق والنرد وبعضهم يمارس الشطرنج. ولم يكونوا راضين عن أقوال المذيعين، إلا أن الشباب لم يشرحوا الأمر بالتفصيل"؛ جملة التناقضات المؤسِسة في وعي النخبة وممارساتها كانت أبرز ما يذهب إليه "عربي" بين الحيرة والاستهجان، وصولاً إلى قول إن كل ما يحيط به كذب وزيف.

تتجلّى السخرية السوداء في التعليق على هشاشة الواقع وسوداويته، خاصةّ حين يكتب عن تضخّم الدولة الأمنية بعد "أن خرج الجيش ليمارس مهماته الطليعية"، عقب وضعه ممثلي الشعب في البرلمان "الخونة" و"العملاء" و"الانتهازيين" في السجن، وكأن التمثيلية ذاتها تتكرّر بعد عقود، وصوت المذيع نفسه يقول: "وفرح الشعب كثيراً".

الرواية التي تجمع مشاهد مفكّكة من كوابيس ويوميات وسرد متشظٍ ولغة على حافة الشعر، جاءت لتعبّر عن محطّة مفصلية من حياة كاتبها/ بطل العمل في آن، والذي عبّر عنها في مقال نُشر حول تحوّله إلى كتابة جديدة ستغيّر حياته، وضمّنها في "أنت منذ اليوم"، حين تجمّعوا في المقهى حول المواطن "عربي" بعد أن سمعوا أنه يكتب رواية، فاعتبروها "غير متماسكة وتقسر التاريخ قسراً"؛ خمسة أعوام فقط كانت كافية لأن يطلق السبول النار على نفسه لأنه لم يحتمل واقعاً غير متماسك ومثقلاً بتاريخه.

المساهمون