واسنلي وسانلي وساحرات خور روري

واسنلي وسانلي وساحرات خور روري

09 مارس 2018
جانيت بارنز/ بريطانيا
+ الخط -
دائماً يأتي من يضيء طريقاً مظلماً، كان السير فيه كمن يسير في ظلام حالك، يأتي منيراً شموع الكتابة المفقودة، مذكراً بثيمات الهجر والفراق والموت، الثيمات التي رسخت في الأرض عميقاً، ووجدت لها جذوراً عزيزة في الجذر المتوهج البعيد.

دائماً ثمة من يأتي مذكراً بالماضي، لأننا من الماضي نقرأ الحاضر، ومن الحاضر نستشرف آفاق المستقبل. دائماً ثمة من يأتي مذكراً بالدم، لأنه من الدم تسري الحياة في الأوصال.

التجربة هنا تخلق هذا الارتباط الحميمي، الارتباط المفقود بين عالم مضيء، وعالم قاحل، وعالم قام على أنقاض الماضي وخرائبه، لنكتشف بعد إتمام قراءتنا، أن ما كنا نعتقد بفقدانه إنما حاضر معنا وبيننا، وأنه لا مناص لنا ولا فكاك من الدم، كما لا مناص لنا ولا فكاك من الجثث، ونحن نعيش في عصر نعتقد أنه الورد الذي لا يذبل، والثمر الذي لا يسقط، والبيت الذي لا يتهاوى.

دائما نحن وجهاً لوجه في هذه التجربة أمام الموت، وعندما نكون أمام الموت نكون إذ ذاك أمام الحياة، الحياة التي تسير إليه ثم لتبدأ منه أيضاً .وأمام هذا المصير المأساوي الذي تسير إليه دوماً شخوص الروائي العماني أحمد الزبيدي، نقف جميعاً على تلة، كمن ينظر إلى مدينة تحترق، وإلى اليابسة وقد أغرقها الطوفان، وإلى رصاص مجهول يحصد الأرض وساكنيها.

ليس في ذلك خيال مضاف من الكاتب، لأن الكاتب هنا وهو يتجه إلى الماضي إنما يذهب بنا إلى المستقبل، إذ من الماضي تتشكل بذور الأشياء وطوالعها وآفاقها.

الحديث عن عالم يتهدم وعالم يضيء، قديم إبداعياً قدم الفن، ومن عالجه في الرواية من الكتاب العالميين أستحضر منهم وليم فوكنر في روايته "الصخب والعنف"، وتشينوا أتشيبي في "الأشياء تتداعى".

وللحديث عن مقارنة ما بين رواية "سنوات النار" لأحمد الزبيدي كنموذج و"الأشياء تتداعى" لأتشيبي نجد أننا أمام تجربتين تقتربان من ثيمات واحدة، إذ تركز التجربتان على تفكك العالم القديم أمام الغزاة الاستعماريين، وتنقلان - أي الروايتان- أساطير أفريقيا لدى أتشيبي، وأساطير الجنوب العماني لدى الزبيدي. وتنقلان أيضاً في تشابه خلاّق روح القتال الضاري أمام الغزاة . إنها تراجيديا الإبداع التي تمنح الأقدار الأرض مبدعين يندثر كل شيء في حالة غيابهم، ويبقى كل شيء مع حضورهم الإبداعي المتميز الخلاّق.

لكننا لا نستطيع من جهة أخرى اعتبار رفض الحاضر تمسكاً بالماضي. الكاتب هنا يقدم رفضاً للحالتين، يقدم إدانة للحالتين، بل ويقدم نقداً للحركة السياسية المضادة للنظام أيضاً. والرفض للماضي وللواقع وللمضاد لا يأتي إذن مجرد رفض للخطاب السياسي السائد، بل وأيضاً رفضاً لمن حاول دون شك وبدافع وطني هدم ذلك الخطاب.

إن تأسيس عالم جديد مناقض لا ينظر إليه الكاتب، لا يجده ولا يراه إلا في حي مانديلا بصلالة، الذي يقدمه الزبيدي كنموذج للحراك السياسي الاجتماعي القادم، نموذج للتربة التي ينمو عليها الحب والثورة والحياة.

العالم القديم يتفكك من الداخل ومن الخارج أيضاً. إذا كان الخارج قاسياً بطبيعته الاستعمارية، فالداخل هو الأقسى، عندما يتعاون الأبناء مع المستعمر في هدم وطنهم، ذلك ما هو ملفت في تجربة أحمد الزبيدي كما هو في تجربة أستاذه الأفريقي الكبير تشينوا أتشيبي في "الأشياء تتداعى".

لقد رحلت مع أتشيبي آلهة افريقيا، الإله شوكو والإله ايكتيفا أكوتا، ورحلت مع سنوات النار للزبيدي آلهة ظفار القديمة واسنلي وسانلي، رحلت ساحرات أفريقيا، ورحلت أيضاً ساحرات خور روري. والحديث ليس بهدف قول الانحياز إلى مكان حي مانديلا الفقير، ذلك لا يكفي لاعتبار الحي أرضاً لحركة إبداعية جديدة. ولكن لأن التربة هي التي تخلق لنا المعاناة، والتي منها يأتي الإبداع وتشرق الحياة.

هكذا يتحول الحي إلى بطولة النص، حي مانديلا الذي أصبح بؤرة ومرتكزاً للتجربة الإبداعية في عمله الأخير "امرأة من ظفار". حي مانديلا يصفه ناجي من الرواية قائلاً: " ماليندي ،الله يا مالينجا. في هذا الحي تصدح الموسيقى من الشبابيك، وتتصاعد من مسامات الأرض كنشيج، وتسكن الأسطح والحوانيت، طبل النساء وطبل مرباط، والبرعة بإيقاع ظفار والنانا والدبرارت الخ ...

وتُصغي لأبي كامل (سالم قطن)، الصوري، وموزة خميس، ومحمد حبريش يردد" يا نسيم الصباح"، وفرقة بن توفيق، وآخرين، وأجيال وأذواق. وفي منتصف الليل إذا حالفك الحظ وسعد ليلك وهنأ مزاجك وراقت الرفيقة فجر، فقد يأتيك من أحد المنازل إيقاع الموسيقى يعزفها هاوٍ ومتمرس وأحياناً في ليلة من ليالي القمر المنير، يكون الصمت موسيقى الحالمين، فلا تسمع حتى دبيب نملة، وإنما آهات الهوى تنبعث من خلال الزوايا والظلال، عندما يتقاطع البدر المنير ونور الشارع الكابي، وأحلام عشاق أنهكهم الحب فباتوا حول السدرة الطاهرة، ترفرف أرواحهم كما فراشة ترقص على قبس من نور.

طفنا.. ثم همنا الليلة في شوارع ودروب حي مانديلا العتيد، كانت الليلة ليلة جاز، وطرب العازف حتى حلق في أكوام من فضاء النغم وما استراح، هذه الليلة من ليالي شعب ظفول "ظفار" الخالدة، احتضنت ناجي وراقصته، وحذا حذوي ميزون ومحمد، وسحبت فجراً الفتى سانلي الذي كان خبيراً في هذه الرقصة التي طالما رقصها في مراقص هافانا، وفجأة نزل الأهالي في الشارع يهزجون، وضج الشارع بأهله وزواره.

أشرق الفجر فدّون ناجي في مذكراته "حي مانديلا، الشارع الطويل، والرفيقة فجر، والعازف الجميل ليلة من ليالي طفول"ظفار الخالدة".


*نشرت هذه الشهادة في كتاب "عبيد العماني حيّا" (دار "سؤال"/ 2015) إعداد وتحرير سليمان المعمري وسعيد الهاشمي.

المساهمون