"التطويق": الجغرافيا المتخيّلة وأوهام الأرض الخالية

"التطويق": الجغرافيا المتخيّلة وأوهام الأرض الخالية

13 فبراير 2018
(السياج المطوِّق لقطاع غزة عام 1993، تصوير: بيتر تورنلي)
+ الخط -

احتاج غاري فيلدز Gary Fields، الأكاديمي في "جامعة كاليفورنيا - سان دييغو"، إلى قرابة عشر سنوات من البحث والعمل على كتابه الصادر مؤخراً عن "منشورات جامعة كاليفورنيا" تحت عنوان: "التطويق: الأرض الفلسطينية في مرآة تاريخية". لا يتناول الكتاب التشابه والربط بين الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين من جهة، والإنكليزي - الأميركي لأرض السكان الأصليين في أميركا الشمالية من جهة أخرى فقط، بل يربط بينها من زاوية جديدة، تُعرف بـ"التطويق الإنكليزي".

يشير فيلدز في مقدّمة كتابه إلى أن رحلته مع الكتاب جاءت بعد زيارة له إلى فلسطين، وكان آنذاك يفكّر في كتابة دراسة مقارنة بين جدار الفصل العنصري الذي بنته سلطات الاحتلال، وبين الجدار الحدودي بين إسبانيا والمغرب، وكذلك الجدار بين منطقة تيوانا في المكسيك وسان دييغو في كاليفورنيا، حيث يعيش ويعمل.

ويضيف بأن المقارنات "كانت تهدف إلى إظهار الكيفية التي يترجم بها الخوف والقوة بشكل مادي وفعلي عن طريق الجدران، كجزء من ممارسات كونيّة من أجل السيطرة على مجموعة معيّنة من الناس. ولكن عندما بدأ في العمل على المشروع على الأرض والقيام بالبحث الميداني، بما في ذلك الحديث مع الفلّاحين الفلسطينيين ورؤساء البلديات الفلسطينية وغيرهم، عن تأثير جدار الفصل على حياتهم، تغيّرت طريقة تفكيره في مشروعه.

ويشير في هذا السياق: "على الرغم من أن الجدار يبقى رمزاً للقوّة والخوف والسيطرة، فإن تلك الأصوات كانت تكشف رواية أكثر أهميّة عن الأرض وانتزاع الملكيّة ونقل الأرض من يد مجموعة إلى مجموعة أخرى. في هذا السياق يمكن رؤية جدار فلسطين والمتأثرين به بحيث يصبح جزءاً من السردية التاريخية عن الحق في الأرض - ونهم الاستيلاء عليها".

يتطرّق فيلدز في المقدمة أيضاً، إلى وجود أدبيات بحثيّة متطوّرة متعلّقة بالأراضي الفلسطينية، ومحاولات الاستيلاء عليها من قبل نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في البداية، وثم "الإسرائيلي" بعد النكبة. ويشير إلى تنوّع الأنظمة الاستعمارية حول العالم لكن واحداً منها يبدو قريباً في تفاصيله مما يحدث في فلسطين؛ هو ما حدث في أميركا الشمالية من قبل الاستعمار الإنكليزي/ الأميركي في الماضي وحتى يومنا هذا ضد السكان الأصليين. ويلفت الانتباه إلى أن قادة الصهاينة أنفسهم قاموا بتلك المقارنات.

يذكر فيلدز على سبيل المثال مقالاً لـ زئيف جابوتنسكي نشر عام 1923 تحت عنوان: "الجدار الحديدي"، ويتحدّث فيه بصراحة عن التشابه بين الخطط الصهيونية وبين تلك التي اتّبعها الاستعمار الإنكليزي للاستيلاء على أراضي السكان الأصليين في أميركا الشمالية. ويحذّر جابوتنسكي من أن الفلسطينيين سيحذون حذو نظرائهم من السكان الأصليين (الهنود الحمر) في الكفاح ضد استعمار بلادهم.

ينوّه فيلدز إلى أهمية طروحات إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية" (1993)، والذي أشار فيه إلى حقيقة أن الاستعمار، أساساً، ظاهرة ماديّة يتم فيها الاستيلاء على الأرض، لكنّه شدّد كذلك على أنها تنبع من منظار المستعمرين ورؤيتهم للعالم وخطابهم الذي يعيد تخيل الأرض على أنها إرث للمستعمِر. ويشير فيلدز إلى أهمية عملية إعادة اختراع معانٍ جديدة حول الأرض، سمّاها سعيد "الجغرافيا المتخيّلة" وأصبحت مقولة أساسيّة ومهمّة في عدد من الحقول المعرفية وفي أطرها النظرية التحليلية. و"الجغرافيا المتخيلة" إحدى المداخل الأساسية لمشروع فيلدز وكتابه.

يقول فيلدز إن ما أسقطه المستعمرون على الأرض التي كانوا يرغبون في الاستحواذ عليها هو فكرة "الأرض الخالية" التي لا يملكها أحد. فلو اعترف المستعمرون الإنكليز بأن السكان الأصليين الذين واجهوهم في أميركا الشمالية، هم من يملك الأرض لشكّلت عملية الاستيلاء على الأرض معضلة أخلاقية. وبالرغم من أن الملوك كانوا يجدون دائماً طرقاً للالتفاف حول وصية "لا تسرق"، فإن السرقة كانت ما تزال خطيئة. ولهذا كان خطاب وعملية تخيّل الأرض في العالم الجديد على أنها خالية أساسياً ومهمّاً.

اعتمد المستعمرون على قوانين تعود جذورها إلى العصور الوسطى، تسمح لمن يعمل على الأرض ويستصلحها ويحسّنها أن يصبح مالكها الفعلي على أساس أنها، بدون وجوده وعمله، ستكون أرضاً مواتاً.

وسمح خطاب "التحسين" هذا بتوفير طريقة يمكن فيها التأكد بصرياً وعملياً من مدى "تحسين" الأرض وبالتالي امتلاكها بشكل شرعي. كان للأرض المحسّنة ميزتان: أن تكون محروثة ومزروعة وأن تكون مطوّقة بسياج أو حاجز فوق الأرض يفصلها عن أراض محسّنة أخرى أو عن الأراضي المحيطة المملوكة مشاعياً أو جمعياً.

وهكذا تم دمج مفهوم التطويق مع الحقوق الفردية كاستراتيجية لاستصلاح الأراض "المتروكة" في إنكلترا. وتم استخدام هذا الخطاب للاستيلاء على الأراضي في مستعمرة ماساتشوستس عام 1630، حيث كتب حاكمها ونثروب أنه "ليس باستطاعة السكان الأصليين تطويق/ تسييج الأراضي وتحسينها، ولذلك فهي مفتوحة أمام من يستطيع ذلك"، ودمج جون لوك في ما بعد هذا الخطاب وأدخله ضمن خطاب عالمي حول حقوق ملكيّة الأرض.

شرعن الاستيلاء على الأراضي غير المطوّقة والمستصلحة لا في إنكلترا وحدها، بل في مستعمراتها. ومن هذه الممارسات وهذا الخطاب في إنكلترا وفي المستعمرات في أميركا الشمالية ظهر مفهوم الاستئثار بالأرض. هذه الأراضي أصبحت مملوكة، ومع الملكية يأتي الحق في استثناء الآخرين ومنعهم من الوصول إلى حيز تحدّه، مخصوصٍ ومعرّف بأنه "لي وليس لك".

ويُكمّل القانون والسياج بعضهما بعضاً كأدوات قوة في تطبيق الحق بالاستئثار والاستثناء تستخدمها الدولة وأجهزتها. ومن الجدير بالذكر أن المفردة التي اختارها لعنوان الكتاب Enclosure، ذات حقل دلالي غني يُحيل على التطويق والتسييج والإحاطة والإغلاق. فمفهوم التطويق ومؤسسة المستعمرة رسما خطوطاً على الأرض أصبحت حدوداً ترسّخ سياسات المنع. وحدّد السياج/ التطويق حيّز الملكية الخاصة بينما حدّدت المستعمرة حيّز الملكية البيضاء للمستعمر.

الأطروحة الرئيسية في كتاب فيلدز هي أن ترسيخ الوجود الصهيوني على أرض فلسطين هو جزء من هذه السلسلة، من تاريخ خلق الحيّز الخاص للاستعمار الاستيطاني، والذي تعود جذوره إلى ممارسات وقَوْنَنة التطويق في إنكلترا. يتتبّع الكتاب انتقال خطاب "تحسين الأرض" وحقوق الملكية الخاصة من إنكلترا إلى مستعمراتها ومن ثم إلى فلسطين فيما بعد. مكّن هذا الخطاب الصهاينة الأوائل وحتى حكام إسرائيل الحاليين، من شرعنة الاستيلاء على الأرض. لا لأن "الله وعد اليهود بها" في أيديولوجيتهم، فحسب، بل لأن الصهاينة تخيّلوا أنفسهم الأقدر على تحسين الأرض وتحديثها.

فحين كان هرتزل وبن غوريون يستدعيان صورة "الأرض الخالية" في فلسطين، ويسهبان في الحديث عن المستوطنين الأوائل الذين سيسترجعون الأرض من الفلسطينيين الذين أهملوها لزمن طويل، بحسب الدعاية الصهيونية، فإنهما كانا يتحدّثان ذات اللغة التي تحدّثها ونثروب ومستعمرو أميركا الشمالية البريطانيون. وهو خطاب ما زال فاعلاً اليوم لدى الصهاينة في فلسطين.

يشير الكاتب في الفصل الاستهلالي إلى أهمية الزيارة التي قام بها إلى فلسطين عام 2003، وأهمية الحوارات مع الفلسطينيين الذين يعيشون تبعات المشروع الصهيوني في بلورة مشروعه. ويذكر إشكالية مهمّة تواجه البحوث التي تقارن الماضي بالحاضر الكامنة في وجود نزعتين.

الأولى؛ سمّاها المؤرخ الاقتصادي بول ديفيد Paul David، بـ"مدّ البصر" Presbyopia، وتتمثّل في الإخفاق في رؤية الأحداث بوضوح بسبب الإفراط في تضخيم الحاضر واستثنائيته، وبذلك يفقد صلته بالتاريخ. والثانية، على العكس، تصرّ على أن التاريخ يعيد نفسه. وبذلك فإن الحاضر يمكن تفسيره بالعودة إلى أحداث مضت. لكن، بدلاً من فكرة التكرار الخاطئة، من الأفضل أن ننظر إلى التاريخ كما لو أنّه شعر. تشترك فيه الأحداث بالقافية، دون أن تكرّر بعضها بعضاً. وبذلك يمكن تمييز الأحداث والنتائج المتشابهة والمتوازية في الماضي من أجل النظر إلى العالم اليوم بصورة أعمق.

يشبّه الكاتب عمله بعدسة تركّز على أحداث في الماضي لكشف معاني ظواهر في الحاضر. ويستفيد من ابن خلدون في أسلوبه المقارن كما يستفيد من المعاصرين. لكن تظل الأرض هي المحور الرئيس للكتاب وذلك للبحث في صراع القوة حول الحق فيها. ويشدّد الكاتب على أن "السؤال المركزي هو كيف تصبح الأرض الحيز الرئيسي لمواجهات بين مجموعات تمتلك مطامع في الأرض، وبين السكان الأصليين الراغبين في الدفاع عن حقهم فيها. وكيف تعيد هذه المواجهات تشكيل الأرض لتعكس تبعات ونتائج السلطة والمقاومة".

يشير فيلدز إلى أن دعاة التحديث والتقدّم الذين يتسلّحون بخطاب الإصلاح، للاستيلاء على أراضي الغير وتحويلها إلى ملكية خاصّة يستخدمون ثلاث أدوات مهمّة هي الخرائط وعلمها، وقانون الملكية، والعمارة. تغيّر كل واحدة منها طبيعة الأرض وتعيد تعريفها وتقسيمها وتوزيع حدودها ومعانيها بما يطابق أهدافهم. فيحتكرون الجزء الأكبر ويضعونه جانباً، ويمحون ويضيّقون الخناق، في ذات الوقت، على الذين تؤخذ منهم الأرض، فيخلقون ثقافة جديدة.

ويفرد المؤلف قسماً خاصاً للإطار النظري الذي سيستخدمه والذي يعتمد على عدّة مفاهيمية تستند إلى المفكّر الفرنسي ميشيل فوكو، إذ يرى أن القوّة تتمظهر في الحيّز الفيزيائي وتتمثّل مادياً في الجغرافيا. ويحرص المؤلف على توضيح ما يعنيه بمفهوم Landscape، ويعرّفه على أنه الحالة الماديّة التي تخلقها فعاليات البشر على البيئة الطبيعية. فهي تفاعل المجموعات البشرية والأطوار الاقتصادية والزراعية.

ويستعين بكارل ساور الذي عرّف الـ"لاندسكيب" كظاهرة ثقافية يكون الفاعل فيها هو الإنسان، والطبيعة هي الوسط، وهي بمثابة النصّ الذي يمكن عبره قراءة الأرض وما يحدث فيها. ولكن هذا النص يتسّع أيضاً للمعاني الموجودة في مخيال المرء الناظر. وبهذا يكون معنى الـ"لاندسكيب" جدلياً يفهم بين قطبي الحقيقة الماديّة من ناحية وبين مجال المخيال والتمثيل من ناحية أخرى.

يختتم فيلدز الجزء النظري بإشارة غاية في الأهمية وذات أبعاد سياسية وأخلاقية مهمّة، إذ يؤكد أن التركيز على الأرض والخطاب الذي يستولي عليها وتقنيات القوة وأدواتها لا يجب أن يُنسينا أن الإنسان، كفاعل، هو الذي يغيّر طبيعة الأرض ويضع الأفكار والخطابات موضع التطبيق ويترجمها إلى حقائق.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء. يتعرّض الجزء الأول بالتفصيل لنشأة قانون التحسين والاستصلاح وتحويل الأراضي العامة إلى الملكية الخاصة في إنكلترا في بدايات العصر الحديث. أما الجزء الثاني فيكرّسه المؤلف لمفهوم الأرض لدى السكان الأصليين في أميركا الشمالية وعلاقتهم بها وكيف حوّل الاستعمار الأرض إلى ملكية خاصّة بالاستناد إلى خطاب التحسين والتحديث المذكور أعلاه. ويركّز الجزء الثالث على الأرض والملكية في فلسطين التاريخية وآليات التخييل والاستيلاء على الأرض في الخطاب الصهيوني وممارسات الاستعمار.

المساهمون