نسخة معاصرة من كتاب أخبار الحمقى والمغفلين (3)

نسخة معاصرة من كتاب أخبار الحمقى والمغفلين (3)

06 أكتوبر 2018
(العربي الجديد)
+ الخط -

عن صحبة الأحمق، قال أحد الشعراء:
اتقِ الأحمقَ أنْ تَصْحَبهْ
إنما الأحمقُ كالثوبِ الخَلِقْ
كلما رَقَّعْتَ منه جانباً
خرقتْهُ الريحُ وَهْنَاً فانْخَرَقْ
أو كصدع في زجاجٍ فاحشٍ
هل تُرَى صَدْعَ زجاجٍ يُرْتَتَقْ؟
أو غلامِ السوق إن جَوَّعتَهُ
سرقَ الناسَ، وإنْ يَشْبَعْ فَسَقْ!
فصل: الأحمق مضرب للأمثال

تقول العرب: فلان أحمق من هبنقة! وهبنقة هذا أعجوبة من أعاجيب الزمان، فقد كان يعلق في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف، فلما سئل عن سرها، قال: أخشى أن أضَيِّعَ نفسي، ففعلت ذلك لأعرفها وأعثر عليها إن ضاعت!

وذات ليلة سرق أحد الظرفاء القلادة وعلقها في عنق شقيق هبنقة، فلما رآى أخاه قال له: يا أخي أنت أنا، ولكن مَنْ أنا؟!

وكانت لهبنقة فلسفة خاصة في رعي الإبل، فقد كان يصطحب الإبل السمينة إلى المراعي الخصبة، ويأخذ المهازيلَ إلى المراعي الفقيرة، فلما سئل عن السبب، قال: الله خلقها هكذا، وليس من شأني تغيير خلق الله!!

أضاع مرة بعيراً فخرج ينادي بين الناس: مَنْ يجد بعيري فليأخذه له، حلالاً عليه. ضحك الناس وقالوا له: ماذا ستستفيد أنت في محصلة هذا العمل؟ فقال: كيف لا أستفيد؟ أنا آخذ الحلوان!

واختصمت قبيلة "طفاوة" مع قبيلة "راسب" حول رجل حكيم ادعتْ كل قبيلة أنه عَرَّافَتُها، وقد حُكِّم هبنقة في النزاع فقال: نُلقي الرجل في الماء، فإن طفا فهو من "طفاوة"، وإن رسب فهو من بني "راسب"!

وقالوا: (أحمق من حُذْنة)، وهي امرأة رعناء تمسح أنفها بكوعها، و(أحمق من أبي غبشان)، و(أحمق من جحا)، و(أحمق من عجل بن لجيم)، و(أحمق من حجينة)، و(أحمق من عَدِيِّ بن حباب).

وسحبوا صفة الحمق البشرية على الحيوانات والطيور فقالوا: (أحمق من الضبع)، و(أحمق من أم عامر)، و(أحمق من نعجة على حوض)، لأن النعجة إذا وردت الماء تنكبُّ عليه ولا تنثني، و(أحمق من ذئبة)، لأن الذئبة تترك ولدها وتُرْضِعُ ولدَ الضبع! و(أحمق من حمامة)، لأنها لا تُصلح عشها فيسقط منه البيض وينكسر، بل إنها تبيض أحياناً فوق الأوتاد، و(أحمق من نعامة)، لأنها تحضن بيضَ غيرها وتترك بيضها، و(أحمق من عَقْعَق)، لأنه يضيع بيضه وفراخه.

ومن الحمقى الرائعين شاعر ماجن من أهل الكوفة يُدعى "حمزة بن بيض" الذي دعا حَجَّاماً ليجري له الحجامة في موعدها، وكان الحَجَّام ثقيل الحضور مهذاراً. فلما سن المشاريط قال له حمزة: الآن توجعني.
قال الحجام: لا.
قال حمزة: انصرف اليوم وعُدْ إليّ غداً.
قال الحجام: إنك محتاج إلى إخراج الدم الفاسد، وهي سنة نبوية، ومن يدري ما يحدث حتى الغد، والمشاريط جاهزة، فما هي إلا لحظات وننتهي.
قال حمزة: إن كان الأمر كما تقول فدعني أمسك إحدى خصيتيك، تكون في يدي رهينة، إن أوجعتني أوجعتك!!!!
فقام الحجام وقال: أرى أن تدع الحجامة هذا العام فلعلها تؤذيك إن أجريتَها!
وروي عن حمزة بن بيض أنه سأل غلامه: هل تتذكر في أي يوم صلينا الجمعة في الرصافة؟
فصفن الغلام طويلاً وقال: يوم الثلاثاء!


فصل خاص بـ جُحَا

ومن أشهر الحمقى وأكثرهم إثارة للضحك والتهكم "جحا"، الذي يزعم الأتراك أنه تركي، واسمه الأصلي "نصر الدين خوجا"، وأما العرب فيعرفونه بالاسم نفسه، (جحا)، ويلقبونه أبا غصن، وقد ذكر محقق كتاب "أخبار الحمقى" أنه (رجل أسطوري ربما سكن الكوفة بالعراق، يُضْرَبُ به المثل في الحماقة والبلاهة، وتنسب إليه النوادر والفكاهات)، وأنا أرى أن قضية تنسيبه إلى العرب أو الأتراك أو غيرهم ليست مهمة، فهو شخصية تراثية إنسانية مثل دونكيشوت وغيره من الشخصيات الإنسانية الخالدة.

قال رجل لجحا: سمعت من داركم صراخاً، فما الخطب؟
قال: سقط قميصي من السطح إلى الأرض.
قال الرجل: فما الذي أجزعك؟
قال: يا أحمق! لو كنت أرتديه أما كنت سقطتُ معه؟!!!


تعليق على فصل جحا

حينما يصل بنا المقام في عرض كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي إلى الفصل الخاص بجحا، نجد أن مستوى السخرية في النص يرتفع تلقائياً، لأن جحا ليس مجرد أحمق متهور، بل إنه - كما هو معروف - يبطِّن أفعاله بكثير من الذكاء والتهكم والسخرية، وكان يضحك على نفسه وعلى الآخرين، مثلما كان الآخرون يضحكون منه وعليه.. ومعروف أيضاً أن المئات من النوادر التاريخية ألفها أناس مجهولون ونسبوها إلى شخصية جحا، خشية أن يقع العقاب عليهم إن هم نسبوها إلى أنفسهم.

ومن أخبار جحا التي ترد في كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" أن أحد جيرانه مات، فذهب إلى حفار القبور ليتفق معه على تجهيز القبر، وجرى بينهما لِجَاجٌ حول الأجر، فتركه جحا وذهب إلى السوق واشترى خشبة بدرهمين وجاء بها، ولما سئل عنها قال:
- الحفار لا يحفر بأقل من خمسة دراهم، وقد اشترينا هذه الخشبة بدرهمين لنصلبه عليها ونربح ثلاثة دراهم.. والمرحوم، جاري، يستريح، بهذه الطريقة، من ضغطة القبر ومسألة منكر ونكير!

وهبت ذات مرة عاصفة هوجاء، أرعبت الناس وجعلتهم يتذكرون الله فيقفون بين يديه خاشعين تائبين نادمين عما ارتكبوا في حياتهم السابقة من معاص، وإذا بجحا يقول لهم:
- يا قوم، لا تعجلوا بالتوبة، إنما هي زوبعة وتسكن!
وذات يوم تجمعت عند باب دار أبيه كمية من الأتربة التي تلزم له من أجل رَصّ اللبن، وخشي أبوه أن يخرج له الجيران ويحتجوا على وجود الأتربة وبقايا الهدم عند الباب، فماذا يصنع بها؟ قال له جحا:
- لديك حل ناجع، احفر بئراً واكبس هذه الأتربة فيه!

وطرائف جحا مع أبيه تكاد لا تنتهي، فقد أرسله أبوه، مرة، إلى السوق ليشتري له رأس خروف مشوياً، ففعل، وفي الطريق جلس جحا جانباً وأكل عيني الخروف وأذنيه ولسانه، فلما مثل أمام أبيه سأله: أين عيناه؟ قال (كان أعمى)، وأين أذناه؟ قال (كان أصم)، فأين لسانه؟ قال (كان أخرس)، قال فعد به إلى البائع وأعده له. قال جحا: المشكلة أنه باعني إياه بالبراءة من كل عيب!
وحينما كان جحا في وداع أبيه الذاهب إلى الحج قال له:
- لا تطل غيبتك علينا، واجتهد أن تكون عندنا في العيد لأجل أن نأكل معاً من لحم الأضحية!
ويوم توفي أبوه قيل له (اذهب فاشتر له كفناً!)، فقال: أخاف إن أنا ذهبت لشراء الكفن أن تفوتني الصلاة عليه!

وذات مرة كان جحا يعدو في السوق ملهوفاً يسأل عن جارية ضائعة. قالوا له: فما هي أوصافها؟ قال: صاحبُها مخضوب اللحية!
وسأله رجل عما إذا كان يجيد الحساب بالأصابع، قال جحا: بلى، أجيده.
قال الرجل: (خذ جريبين من الحنطة). فعقد جحا الخنصر والبنصر.
قال الرجل: (وخذ جريبين من الشعير).
فعقد جحا السبابة والإبهام، وأقام الوسطى إلى الأمام، فسأله الرجل:
- لم أقمت الوسطى؟
قال: لئلا تختلط الحنطة بالشعير!


فصل: حمقى آخرون

ومن الحمقى المشاهير في تاريخنا رجل يدعى مزبد المدني، وكانت له فلسفة ذكية، قريبة من فلسفة جحا.
قال مزبد لرجل:
- هل يسرُّك أن تسقط من فوق البيت وتُعْطى ألف درهم؟
قال الرجل: لا.
قال مزبد: وددت أنها لي وأسقط من فوق الثريا.
قال الرجل: فإذا سقطت مت.
قال: وما يدريك! لعلي سقطت في التبابين أو على فرشة وثيرة.
وقيل له: أيسرك يا مزبد أن تكون هذه الجبة لك وتُضْرَبُ عشرين سوطاً؟
قال: أجل، واعلموا أنه لا يكون شيء إلا بشيء.

دلالات

المساهمون