نسخة معاصرة من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" (5)

نسخة معاصرة من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" (5)

20 أكتوبر 2018
رسم: عماد حجاج
+ الخط -

فصل: أخبار العقلاء الذين بدرتْ عنهم حماقات وقفوا عندها، وتشبثوا بها، فصُنِّفوا لأجل ذلك مع الحمقى.

يروي لنا ابن الجوزي في هذا الفصل حكاية عن مطرب حضرَ عند أحد الأمراء يريد أن يغني له ويتكسب منه، وكان في المجلس أحد الوزراء، فأراد أن يمدحه ويطريه ليحمسه ويحصل على شيء من عطاياه، إضافة إلى عطايا الأمير، فغنى له بيت المتنبي:
قَوَاصِدُ "كــــــــــــــــــــافورٍ" تَوَارِكُ غيـرِه
ومن قَصَدَ البحرَ استقلَّ السواقيا
فغضب منه الأمير وقال له: قبحك الله، ما هذه المعاشرة؟!

وأما عبد الله بن الحسن بن علي فإنه أراد أن يساير أبا العباس السفاح، فأنشده وهو ينظر إلى مدينته التي بناها بظاهر مدينة الأنبار:
ألَمْ تَرَ مالكاً أضحى يبـنّي
بيوتاً نَفْعُها لبَــــــــــــــنـي بَقيــلهْ
يُرَجِّي أن يُعَمَّر عُمْـرَ نوحٍ
وأمرُ الله يأتــي كـلَّ ليـلــــــهْ
فغضب السفاح، واضطر عبد الله بن حسن أن يعتذر له.

ولما حوصر "الأمين" قال لجاريته: غني! فغنت:
كليبٌ لعمري كان أكثـر ناصراً
وأيسرَ جرماً منك، ضُرِّجَ بالدمِ
فاشتد هذا المعنى عليه، فقال لها: غني غير ذلك. فغنت:
شَكَتْ فراقَهُمُ عيني فأرَّقَها
أن التَفَرُّقَ للأحبابِ بَكَّـاءُ
فقال لها: لعنك الله، أما تعرفين غير هذا؟ فغنت:
ما اختلفَ الليلُ والنهارُ وما
دارتْ نجومُ السماء في الفلَكِ
إلا لنقلِ السلطان مــــــــــن ملـكٍ
قد غاب تحت الثرى إلى مَلِكِ
فقال: قومي. فقامت، فتعثرت بقدح بلور فكسرته، فإذا بقائل يقول:
- قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان!

ولما فرغ المعتصم من بناء قصره دخل الناس عليه، فاستأذنه أبو إسحق الموصلي أن ينشده شعراً في وصف المجلس، ثم قال:
يا دارُ غَيَّرَكِ البِلـى ومحَـــــــاكِ
يا ليت شعري ما الذي أبلاكِ
فتطيَّرَ المعتصمُ، وعجب الناس من إسحاق الموصلي كيف فعل ذلك مع عهدهم به أنه لبيب، فقاموا، وخرب المعتصم القصرَ وما اجتمع فيه بعد ذلك إثنان!

ودخل شاعر يُدعى أرطأة، وكان شيخاً كبيراً، على أبي الوليد عبد الملك بن مروان، فاستنشده ما قاله في طول عمره، فقال:
رأيتُ المرءَ تأكلُه اللـــــــــــــــــيـالـي
كأكل الأرضِ ساقطةَ الحـديدِ
وما تبغي المنيةُ حين تأتـي
على نَفْـسِ ابنِ آدمَ من مزيدِ
وأعلمُ أنـهـا ستكُـرُّ حتى
توفّـي نـذرَها بأبـي الوليدِ
فارتاع عبد الملك بن مروان، وعلم أرطأة أنه زل فقال: يا أمير المؤمنين أنا أكنى بأبي الوليد وقد عنيتُ نفسي. فصَدَّقَهُ الحاضرون.

فصل: أخبار المغفلين من القراء والمُصَحِّفين

وفيه أن "مشكلدانة" قرأ في تفسير القرآن عبارة (ويعوق وبشراً) فقال له أحد الرجال بل هي (ويعوق ونسراً)، فقال: هي ذي فوق الشين ثلاث نقط مثل رأسك!
وكان عثمان بن شيبة من أكثر المصحِّفين تهوراً، فقد قرأ الآية الكريمة (فإن لم يصبها وابلٌ فَطلّ) على النحو الآتي: (فإن لم يصبها وابلٌ فَظِلّ)!.. والآية الكريمة (من الجوارح مكلبين) قرأها (من الخوارج مكلبين)!

وقرأ أيضاً: إذا بطشتم بطشتم خَبَّازين. (يريد: جَبَّارين)! وروى عنه إبراهيم بن دومة أنه كان يشرح لهم فكرة، وأراد أن يضرب مثلاً فقال: خذوا سورة المُدَّبِّر (يريد: المُدَّثِّر)!، وقرأ آية كريمة تقول: فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رِجل أخيه. فقيل له: السقاية في (رحْلِ) أخيه. فقال: نحن لا نستخدم قراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي (الذي يبدل الجيم حاء)!

ومرة قرأ عثمان بن شيبة: فضربَ بينهم سنورٌ له ناب. فقيل له إنما الصحيح هو: فضربَ بينهم بسور له بابٌ. فقال: أنا لا أقرأ قراءة حمزة بن حبيب، قراءة حمزة عندنا بدعة.

وأما محمد بن جميل الرازي فقد قرأ الآية الكريمة (وإذ يمكرُ بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك) كما يلي: (وإذ يمكرُ بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يَجْرَحوك)!
وأملى أبو بكر الباغندي على تلامذته: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوياً.. (صحتها هَوْناً)!

وقال أبو الحسين أحمد بن يحيى: مررتُ بشيخ في حجره مصحف وهو يقرأ: ولله ميزابُ السماوات والأرض! فقلت:
- يا شيخ، ما معنى (ولله ميزابُ السماوات والأرض)؟
قال: هذا المطر الذي تراه.
فقلت: لا يكون التصحيف إلا بتفسير، يا هذا، إنما هو (ولله ميراثُ السموات والأرض)، فقال: اللهم اغفر لي، أنا من أربعين سنة أقرؤها (ميزاب)، وهي في مصحفي هكذا!

وقال أبو فزارة الأسدي لسعيد بن هشيم: لو حفظتَ عن أبيك عشرة أحاديث لَسُدْتَ الناسَ.
قال: شغلني عن ذلك القرآن الكريم.
فلما كان يومٌ آخرُ جاء ابن هشيم إلى أبي فزارة وسأله: هل كان جُبَيْرٌ نبياً أم صديقاً؟
قال: مَنْ جُبير؟
قال: في قوله عز وجل: واسأل به جُبَيْرا. (يريد: واسأل به خبيرا)!!
قال: يا غافل، وتزعم أن القرآن الكريم أشغلك؟!!

عن أبي عبيدة قال: كنا نجلس إلى عمرو بن العلاء فنخوض في فنون من العلم، وكان ثمة رجل يجلس إلينا ولا يتكلم حتى ننصرف. فقلنا: إما أن يكون مجنوناً، أو خائفاً، أو أنه أَعْلَمُ الناس. فقال يونس: سأُظْهِرُ لكم أمره. وقام إليه وسأله: كيف علمك بكتاب الله تعالى؟
قال: أنا عالم به.
قال: ففي أي سورة هذه الآية: (الحمـد لله لا شريـكَ لهُ- مَنْ لـم يقُلْها فنفسَه ظلما)؟
فأطرق ساعة وقال: في سورة حَم الدخان!

وعن عبد الله بن عرفة أنه قال: اصطحب ناس، فكانوا يتذاكرون الآداب والأخبارَ وسائرَ العلوم، وكان معهم شاب لا يخوض
فيما يخوضون فيه سوى أنه كان يقول:
- رحم الله أبي، ما كان يعدله في معرفة القرآن وعلمه أحد.
ذات مرة سأله أحدهم: في أي سورة هذه الآيات:
وفيـنا رسـول الله يتلـو كتابه- ما لاح مبيضٌّ من الصبحِ ساطــــــــــعُ
يبيتُ يُجـافي جنبـه عن فراشهِ- إذا استثقلَتْ بالكافرينَ المضاجعُ؟
قال: سبحان الله، من لا يعرف هذا؟ هذا في سورة (حم عسق).
فقالوا: حقاً ما قَصَّرَ أبوك في تأديبك؟
قال مزهواً: أفكان يتغافلُ عني كتغافُل آبائكم عنكم؟!
وقَدَّم رجلٌ ابنَه إلى أحد القضاة وقال له:
- أصلح الله القاضي، إن ابني هذا يشرب الخمر ولا يصلي.
قال القاضي للابن: ما تقول يا غلام فيما حكاه أبوك عنك؟
قال: يقول غير الصحيح، فأنا أصلي ولا أشرب الخمر.
قال الأب: أصلح الله القاضي، أتكون صلاةٌ بلا قراءة؟
قال القاضي: يا غلام، ألا تقرأ شيئاً من القرآن؟
قال: بلى، وأنا يا سيدي أجيدُ القراءة. اسمع: بسم الله الرحمن الرحيم
علقَ القلبُ ربابا بعدما شابتْ وشابا
إن دين الله حقٌّ لا أرى فيه ارتيابا
فقال الأبُ: والله، أيها القاضي، ما تعلَّمَ هاتين الآيتين إلا البارحة، لأنه سرق مصحفاً من بعض جيراننا!
فقال القاضي: قبحكما الله أنت وابنك!

وعن المزني أنه قال: سمعت الإمام الشافعي يقول إن رجلاً أراد أن يقرأ قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين) على النحو الآتي: فما لكم في المنافقين قيسٌ! قيل له: فما قيس؟ قال: هو شيء يقتاسون به!

وقال المزني: حدثني أبو بكر السواق، قال: كان عليَّ وعدٌ واجبُ التنفيذ لابن عبدان الصيرفي، وحالت ظروفي دون ذلك، فجاءني معاتباً، وقال لي:
- إني أقول لك يا أبا بكر كما قال الله تعالى (وشديدِ عادةٍ مقنزعة). فقلت له: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا أخي، إن الله تعالى لم يقل شيئاً من هذا! فاستحيا وقام وانصرف.

المساهمون