"مغنّي الحكايات": عن الشخصية الشفاهية للغة

"مغنّي الحكايات": عن الشخصية الشفاهية للغة

02 اغسطس 2017
عمل لـ جان ميشال باسكيا، 1981
+ الخط -

كانت حياة مليمان باري القصيرة (1902-1934) كومضة برقٍ أضاءت ما حوله. فقد ألقى حجرَه في بركة الدراسات اللغوية التقليدية مؤسساً نظريته التي أراد بها أن يُرجع للتراث الشفاهي الإنساني قيمته المفقودة، ويجعل منه مفتاحاً لفهم العديد من الألغاز العقلية التي تشتبك مع النصوص القديمة. إذ كان باري من أوائل من تنبّهوا إلى الشخصية الشفاهية للغة، متخذاً من المشكلة الهوميروسية الشائكة منطلقاً لأبحاثه.

بعد رحيله المفاجئ عن 32 سنة، حمل الراية تلميذه ألبرت لورد (1912-1991)، الذي بلور النظرية ودعمها بالعديد من المباحث التي شكّلت أطروحته الأكاديمية سنة 1949.

وحين أصدر كتابه "مغني الحكايات" (Singer of Tales) سنة 1960؛ كانت فصوله جامعة بحيث أُطلق عليه: "إنجيل النظرية الشفهية"! فيما يقول والتر ج أونج (1912-2003): "إن هذا الكتاب احتفظ بمكانته بوصفه دستور النظرية الشفاهية لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، ولعله سيبقى دائماً أكثر الأعمال أهمية في حقل هذه النظرية. وعلى سبيل المثال، يعتمد على كتاب "مغنّي الحكايات" أكثر من 1200 من أصل 1800 كتاب ومقالة مفهرسة في الموضوع حتى عام 1985 بشكل أو بآخر".

تدور النظرية حول فكرة التمايز الكبير بين التقاليد الكتابية المستحدثة والتقاليد الشفاهية الأصيلة، وحيث إن المجتمع الإنساني برز إلى الوجود منذ مدة تتراوح بين ثلاثين وخمسين ألف سنة؛ فإن أقدم مخطوط لدينا يرجع تاريخه إلى ستة آلاف سنة فقط. وأنه من بين الثلاثة آلاف لغة المتكلّم بها اليوم ليس هناك سوى ما يقرب من 78 لغة فقط لها أدب مكتوب!

فالكتابة عمل صناعي من خارج الإنسان. والكتابة ليست سوى أحد مكملات الكلام الشفاهي - وفقا لعالم اللغويات الأشهر فرديناند دي سوسير- وليست أداة تحويل للتعبير اللفظي.

يقصد ألبرت لورد بـ "مغنّي الحكايات" الجوسلار اليوغسلافي (نسبة إلى جوسل وهي الربابة)، وهو شاعر أُمّي جوّال يتغنى بالقصائد الطويلة جداً في كافة المناسبات الاجتماعية بمصاحبة آلته الموسيقية البدائية.

يستعرض المؤلف أهم عناصر المشكلة المثارة حول هوميروس (المؤلف الأسطوري لملحمتي الإلياذة والأوديسة) مقدماً حلاً جديداً وفقاً للنظرية الشفاهية وتجاربه الميدانية في عدد من الأوساط الأمية البلقانية.

ثم يرسم لورد صورة للمراحل النموذجية لعملية التعليم لدى الجوسلار (مغنّي الحكايات) التي كوّنت له الأدوات الفنية ثم تطوّرت وفقاً لنظام صارم، لعله يكاد يكون نموذجاً مكروراً في ثقافات الشعوب الشفاهية الأخرى.

تبنّى لورد تعريف أستاذه باري للشعر الغنائي الشفاهي بأنه "مجموعة من الكلمات التي توظّف بانتظام في ظل نفس الظروف للتعبير عن فكرة أساسية محددة". ثم سجّل مجموعات من الأغاني الطويلة لشعراء مثل "صالح أوغليانين" و"أفدو (عبدو) ميديدوفيك" وغيرهما.

وقام بمناقشة الأفكار التي تتابع بصورة طبيعية في تحليله لنماذج الصياغة في أغانيهم، وبيّن كيف تستغل الأحداث والمناسبات بصورة منتظمة في رواية القصة التقليدية، موضّحاً كيف يمكن توسيع مثل هذه الأفكار وتوجيهها، ثم تجميعها واحدة تلو أخرى لتشكل تجمّعاً معقداً من الثيمات.

ويعتقد لورد بأن إدخال الكتابة على مجتمع أمّي لم يكن له تأثير يذكر على القصيدة الشفاهية التقليدية؛ لأن الأغاني الشفاهية نتاج تقنية تركيبية تأليفية مثالية قديمة، بعكس القصائد التي أنشأها مجتمع حديث مُتعلّم، حيث تجنح نحو إظهار تحكّم وسيطرة على الفن في مهده.

في عام 2000، صدرت طبعة جديدة من الكتاب بصورة جيدة؛ حيث أُرفق معها قرص مدمج يتضمّن التسجيلات الأصلية الصوتية لجميع مقاطع الأغاني الملحمية التي اعتمدها المؤلف. مع فيديو يكشف عن أبرز المغنّيين، وبعض الصور التي التُقطت خلال رحلة باري في منطقة البلقان.

المساهمون