عبد اللطيف اللعبي.. وددتُ لو أرعى بطمأنينة بستاني

عبد اللطيف اللعبي.. وددتُ لو أرعى بطمأنينة بستاني

22 يوليو 2017
(عبد اللطيف اللعبي في المكسيك)
+ الخط -

حملت الكتبُ الشعرية الثلاثة الأخيرة، للشاعر عبد اللطيف اللعبي، عنواناً جامعاً ودالاً: "بستاني الروح". الجمع جاء بين ثلاثة من كتبه الشعرية المكتوبة بين العامين 2006-2012، وهو أمر مفهوم يحدث كثيراً حين تجمع مختارات أو أعمال كاملة، ولا يلفت النظر إلى خاصية معينة. أما كون العنوان دالاً فيحمل خصوصية ما تتعلق بالشاعر وتجربته.

صحيح أن لفظة "البستاني" تُحيل فوراً إلى عنوان مجموعة شعرية للشاعر الهندي طاغور (1861-1941)، ولكن ما تحمله سطور اللعبي الشعرية، خاصة في كتابه الثاني، تشير إلى أن الوحي بالبستاني والبستنة، جاء من صلب الثقافة الفرنسية التي كتب فيها أشعاره؛ من نصيحة "كانديد" التي لخصها "فولتير"، بعد أن روى سيرة حياته ومغامراته وجولاته، ووصوله إلى مينائه الأخير، بقوله: "على الإنسان أن يعتني بحديقته الخاصة".
يقول اللعبي:
"وددتُ
في سني الوقورة هذه
لو أرعى بطمأنينة بستاني".

وتفسر السنوات العاصفة التي عاشها (السجن لمدة ثماني سنوات ونصف السنة، وتنقله بين المنافي واللغات والبلدان والثقافات)، هذه الرغبة بالعودة إلى الذات، وأن يخرج إلى حديقته وإن كانت غير موجودة، أو "مجرد نباتات نامية في أصص على الشرفة"، كما يكتب في مكان آخر. وتفسر هذه الرغبة أيضاً تلك الملحوظة التي أشار إليها في حوار معه، حين قال إنه يشتغل منذ عقود في الهامش بعيداً عن أضواء الخشبة، ثم وردت بوضوح في سطوره الشعرية التالية:
"هل سنعي يوماً
أن المركز الحق
مكانه الهامش؟".

الهامش هنا لا يعني المهمل والمهجور، والفاعل بلا فعالية، بل يعني مكاناً أو فضاءً للحرية. والإنسان الذي اختار الهامش مكاناً أو مركزاً، هو الأقدر على الفعل والإبداع ورؤية ما لا يراه الغارقون في التقليد، والسائرون على الطرق المرسومة؛ الهامشي هو الحر الأكثر قدرة على التجديد. وهو رسام خرائط لأماكن وأزمنة مجهولة.

ولعلّ اللعبي وهو يمجّد "هامشيته"، كان في ذهنه ما قاله التشكيليان "بيكاسو" و"براك"، حين ابتكرا الأسلوب التكعيبي في عزلة تامة عما حولهما، وبررا اكتشافهما بالقول إن هامشيتهما أتاحت لهما الخلاص من ضغوط "المركز" والآراء السائدة، فكانا أكثر حرية وأقدر على الابتكار.

ما الذي يحاول اللعبي اكتشافه وهو يقدم صديقته شجرة الجكراندا الجميلة الليلكية، التي تزهر في العام مرتين، مرة في الربيع ومرة في الخريف، ويودّ مثلها أن يشهد إزهاراً عجيباً؟ ما الذي يعنيه حين يقول "لستُ شيخاً ضائعاً في غابٍ، ولا معتوهاً يُباح رجمه، بل كائن حي يبحث عن استكمال هويته الإنسانية؟".

شفافية جمال هذا البحث الدائم عن النفس وتقصي اللغز الشخصي، مصدرها الوعي بأن محاولة النفاذ إلى الكنه الخاص، ترتبط لدى اللعبي بمحاولة التقرب من لغز الكينونة الشاملة كما يؤكد بعبارات واضحة، ويجعلنا نفهم أن سعيه هو ذاته سعي الشعراء الرُؤيويّين المغامرين:
"هي المعجزة فينا
نتقصّاها من بعيد
المصْطَفون العابثون نحن
نادراً ما نعترف بالجميل
حيال فلك يتقدم
مخترقاً الغامض
اللامعنى
وجليد النسيان".

هذا هو موجز كتبه الثلاثة الأخيرة، وموجز حياة المغامرين على حدود المستقبل بتعبير السيريالي الفرنسي "أبولينير".

لكن تبقى ملحوظة لا بدّ منها، وهي أن أشعار اللعبي تقدم هنا مترجمة إلى العربية، أي أن كل ما لدينا هو ما نقله وسيطٌ مترجمٌ انصرف اهتمامه كما لاحظنا إلى نقل معانى الكلمات، وليس إلى الوسائل المؤدّية إلى المعنى، ومنها الأصوات التي تشحن الكلمات بالمعنى داخل القصيدة وليس خارجها. بالإضافة إلى هذا لاحظنا ركاكة في الترجمة متكاثرة، مثل "هل هو أخطأ أيضاً" والسليم "هل أخطأ أيضاً"، و"كأن خطيئة الخطايا/ هي في أن يولد" والأصفى "كأن خطيئة الخطايا/ أن يولد"، و"هل كانت الحياة/ تستحق هذه الإهانات كلها؟" والأجمل "هل استحقت الحياة/كل هذه الإهانات؟".

وبالنتيجة، افتقدنا ما قالت الفرنسية فرانسواز إسكال إنه "خصائص جمالية وشكلية" في شعره، ولم تظهر سطوره كما هي بالفرنسية، "مرتجة بكل العواطف البشرية، ماضية مباشرة إلى ما هو جوهري"، بصفاء غنائي لاحظته هناك، ولم تنقله الترجمة.

وحين نسأل: كيف استطاع الشاعر خلق الجمال من مواد مألوفة، من اليومي والعابر، بكلمات مصقولة بيد صانع ماهر، وبعلاقة عفوية مع اللغة تبتكرها وتحولها إلى لغة شخصية قادرة على ابتكار الحياة فيها كما تقول فرانسواز؟ لا نجد جواباً في ما بين أيدينا من ترجمة، يبدو أن القائمين عليها يأخذون بمبدأ أن الشعر ينسج من "أفكار"، وليس من جماليات تجسيد الأشياء لا الحديث عنها.

أشعار اللعبي تستحق ترجمةً "شعريّة" لا ترجمةً "فكريّة"، لتزهر قصائده مرتين مثلما تزهر الجكراندا، في اللغتين الفرنسية والعربية.

دلالات

المساهمون