صدر قديماً: "الزاوية".. منعطفات التّهامي الوَزَّاني

صدر قديماً: "الزاوية".. منعطفات التّهامي الوَزَّاني

29 ابريل 2017
(تطوان، نهاية القرن التاسع عشر)
+ الخط -
يُطلعنا تاريخُ الفكر والأدب على كُتُب يكون لها من التأثير في مسير الثقافة أو الكتابة حَدَّ إحداثها انعطافاً فيهما؛ من بينها في تاريخ الثقافة المغربية السيرة الذاتية للأديب الصوفي التّهامي الوَزَّاني الموسومة بـ"الزاوية"، التي أصدرها سنة 1942 عن "مطبعة الرِّيف" في تطوان، والتي اعتبرَها نُقاد كثيرون تدشيناً للسرد المغربي الحديث، وأوّلَ سيرة ذاتية في أدب المغرب الأقصى.

نشر الوَزَّاني "الزاوية" أجزاءً على صفحات جريدة "الرّيف" قبل أن تَصْدر كتاباً مستقلاً. ولا تبتعد "الزاوية" كثيراً عن التأليف التاريخي، الذي للمؤلِّفِ الوزّاني فيه كتابٌ في ثلاثة أجزاء هو "تاريخ المغرب"، لأن السيرة الذاتية هي تاريخ للذات الكاتبة، التي ترومُ البوح والإشهادَ، لكنَّ ما يطبعها هو حضور التخييلِ، والنَّظرُ إلى الأشخاص والأشياء والوقائع من منظور الذات دوماً.

ومع ذلك، فللتاريخ نصيبٌ وافرٌ في "الزاوية"، لوجود إشاراتٍ لافتة فيها إلى الحال الهستيرية التي أصابتْ جَدَّةَ المؤلِّفِ لأبيه جَرَّاء دخول الإسبانِ تطوانَ لاحتلالها سنة 1912، لقد ذكَّرَتْها الحادثة بدخولهم مُحتلِّين المدينة نفسَها في "حرب تطوان" سنة 1860؛

"أُصيبتْ - العجوز - بذهول حتى كادتْ تفقد إحساسَها [...] كانت لا تستطيع الجواب، وإنما تنظر إلى الوجوه، فإذا ما انفض المجلس وخلتْ بنفسها تستسلم للبكاء فترسل عبرات بلا نحيب"، مثلما تتضمّن تفسيراً لوقائع تاريخية تسكت عنها كتُب التاريخ؛ مِنْها مثلاً سبب عدم مُبايعة أهل تطوان ونواحيها للسلطان مولاي سليمان، وسبب انتصارهم لمنافسه مولاي اليزيد الذي كان "برنامجه مواصلة الجهاد والضغط على سبتة ومناوأة اليهود، فكان لذلك محبوباً في الأوساط المتطرفة التي لا ترى مسالمة سبتة ومهادنتها، وكان يستعمل قِطع الأسطول المغربي مما خلَّفه أبوه مولاي محمد بن عبد الله في قَطْع غمار البحر، يناوئ خصوم الإسلام".

لكنَّ الأهمَّ في "الزاوية" هو أنها تُتيح لقارئها، بِصِفتها سيرةً ذاتيةً، الوقوفَ على التَّحقُّق الفعلي لتعريف الناقد فيليب لوجون لهذا الجنس الأدبي باعتباره "حكياً استعادياً نثرياً يُقدِّمه شخصٌ حقيقيّ".

فبالاعتماد على ضمير المتكلِّم، سعى الوزّاني، وهو يُشرف على الأربعين، إلى رسْمِ ملامحَ لذاته تكشفُ لنا عن شخصه، الذي نشأ في بيت ولاية وورع، بِحُكْم تحدّره من "أسرة شريفة"، وما كان عليه من رزانة وضبط لنفسه وأهوائها، ووَصْفِ مواقف عاشها خلال تردّده على معلّمين وعلماء لقَّنوه القرآن والعلم، وتَبجيله إيّاهم، دون أن يغفل عن انتقاد النظام التعليمي، والتعريف بأصدقائه الذين كان منهم أقرانٌ له، ومنهم من كان يكبُره سِنّاً.

مثلما رسَم الوزّاني لوحات شيّقة لشاطئ مَارْتِيلَ، المصطاف الحالي الذي كانت ساكنة تطوان تقصده خريفاً، لتضرب به خيامها مُستجِمَّةً، بعد انتهائها من البيع والشراء مع مغاربة الجنوب، لأن الطريق إلى تطوان الشّمالية تكون سالكة صيفاً.

غير أن الأهمَّ بالنسبة للوزّاني في سيرته يَعكسه قوله: "أريد أن أتحدّث عن صفحة من أجمل صفحات حياتي، تلك هي حياة الرهبانية والانقطاع للعبادة والتفرغ". لذلك قدَّم مَشَاهد من فضاءات في مدينته، كانت تعجّ بالزوايا والأولياء والصالحين، واستعرض قراءاته في علم التصوُّف، وما كابدَه في محيطِه الاجتماعي من أهوال أثناءَ تدرُّجه في طريق القومِ، وأثناءَ انتقالِه من حال إلى حال، في سبيل أن يكون له شيْخٌ لِيُسلسَ له قيادَتَه، فيأخُذَ بيده.

ولا تخلو هذه السيرة من حكي كرامات عديدة، لعلّ من أطرفها حكايةُ مريد للشيخ سيدي محمد الحَرّاق واسمُه ابنُ الحسن الذي كان شديد الحياء والوداعة، وكان صاحب دكان، "حتى إذا فتح بابَه، ووجد الفئران في المصائد، قبض القفص في رفق، ثم صار يتأمل في خلقة الفأر، ويسبح الله ويكبره، وإذا كان معه رفيق قال له: انظرْ إلى عين هذا الفأر كيف تبرق من الفزع، وربما كانت أنثى تركتْ أولادَها، ثم يلتفت إلى الفأر يُخاطبه بقوله: ألا تدري أن السُّكَّر لا زال بالديْن، وأن الزيْتَ إذا وقعتَ فيه أفسدْتَه، ثم يُعدِّد عليه جناياته، وبعد أن يعظه عسى ألَّا يعود يفتح باب المصيدة، فينصرف الفأر إلى حال سبيله".

"الزاوية" سيرة ذاتية صوفية فريدة في الأدب العربي، تغيَّا صاحبُها المُريدُ الانخراط في سلك التصوُّف، فكان له ذلك، لكنه سيُغادر الطريقَ بعد أن عثر على ضالّته في الأدب، وفي الكتابة أساساً، التي تشهد "الزاوية" وأعمال أخرى على عُلُوِّ كعب صاحبها، وعلى استعاضته بها عن التَّصوّف.

_________________________________________
صورة أخرى
حرَّض التهامي الوَزَّاني (1903 - 1972) التصوُّفَ على الاندغام في الحياة العامة، بَدَل الانعزال في البوادي والتكايا، في إعراض عن المجتمع. هكذا أصرَّ هذا المتصوِّف الفريد على أن يحضر في المجتمع عبر الصحافة، فكان أن ترأس إحدى أهمّ الجرائد في زمنه؛ جريدة الرِّيف، وصيَّرها منبراً للخوض في السياسي والاجتماعي والثقافي، يُصرِّف من خلالها نصيباً من اقتناعاته وطموحاته وفلسفته.
لقد أدرك الوَزّاني، في وقت مبكِّر، ضرورةَ الانفتاح على العالَم عبر تعلُّم لغة أجنبية على الأقل، فعكف على تعلُّم لغة ثربانتيس حتى برَّز فيها، وانتبه أثناء ذلك التعلُّم إلى مدى تأثير الترجمة في النهوض بالأدب المغربي والعربي، ليَشْرع في ترجمة رائعة الأدب الإسباني "دون كيخوطي دي لا مانتشا"، التي نشر منها ما تيسَّر له أن يُترجِمه على صفحات جريدته "الريف"، فكانت تلك أول مغامرة عربية لنقل هذه التحفة العالمية إلى العربية، ولو أنّه لم يُنجِزها كاملة.
قرَّب الوَزَّاني التصوّف من الحياة اليومية العادية، فكان أن تحدّى أعراف مجتمعه المحافظ، وصار يصطحب زوجته إلى السينما متأنّقين، ليُقدِّم لمجتمعه ولغيره صورةً أخرى عن الإسلام في المغرب، الذي كانت الدعوة السلفية الوافدة من الشرق قد بدأت تترصّده من خلال بعض مُعتنقيها ومروِّجيها.


* "صدر قديماً"، زاوية تختص بتقديم قراءات في كتب قديمة صدرت باللغة العربية وما زالت تنبض بالراهنية.

دلالات

المساهمون