"غرباء أمام بابنا" لـ باومان: إنتاج الذعر الأخلاقي

"غرباء أمام بابنا" لـ باومان: إنتاج الذعر الأخلاقي

23 مارس 2017
(باومان في ميلانو، 2015)
+ الخط -

شهوراً قبل رحيله في يناير/ كانون الثاني الماضي، أصدر عالم الاجتماع البولندي البريطاني زيغمونت باومان (1925 - 2017) كتاباً أشبه بالوصية السياسية إلى أوروبا، يحمل عنوان "غرباء أمام بابنا" Strangers at our Door.

يعتبر باومان أن تلك التقارير الإعلامية والتصريحات السياسية التي تتحدّث عن "أزمة الهجرة" في أوروبا، مجرّد قناع سياسي للحرب المستمرة والتي يخوضها صنّاع الرأي العام من أجل غزو ومراقبة تفكير الناس ومشاعرهم. تنتج التقارير الإعلامية حول هذه القضية برأيه نوعاً من الذعر الأخلاقي moral panic، وهو مفهوم يصف الخوف من خطر يهدّد مصلحة المجتمع.

ليست الهجرات الكبرى بحدث جديد، فهي ترافق العصور الحديثة منذ بداياتها، ويُرجع باومان ذلك إلى طريقة حياتنا "الحديثة"، والتي تنتج ما يسميه بـ "الإنسان الزائد". فهو زائد بسبب التقدم الاقتصادي والتقني الذي يحرمه من فرصة في سوق العمل المحلية، ولكنه زائد ويمكن الاستغناء عنه، ولا حاجة للسوق المحلية به، بسبب الحروب والصراعات المندلعة.

ارتبط المهاجر في الوعي الإنساني الغربي دائماً وأبداً بالخطر والخوف، وهو خوف من غريب لا نعرفه. ويتفاقم هذا الخوف بسبب الوضع الاجتماعي الرث للعديد من الخاسرين من النظام الاقتصادي المعاصر، والذين يعانون الاحتقار وغياب الاعتراف بهم داخل مجتمعات تتمحور حول الإنتاج وتُعلي من قيمة الإنجاز، فتراهم، حسب باومان، يجدون في المهاجرين واللاجئين وسيلة للتنفيس عن مشاكلهم والتعبير عن حنقهم الاجتماعي، وهو ما يفسر برأيه صعود الأحزاب الشعبوية والقومية الشوفينية.

يضرب باومان في هذا السياق مثال زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا، مارين لوبين، التي تحصد أغلب أصواتها من أسفل السلم الاجتماعي، وشعارُها الأساسي "فرنسا للفرنسيين". تمنح القومية هؤلاء الخاسرين اجتماعياً حبل نجاة، والأمر يشبه برأي باومان تلك العلاقة التي كانت قائمة بين السكان البيض في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة الأميركية والسكان السود، إذ يظل الشيء الأوحد الذي يشكّل مصدر الاعتزاز والتميّز هو "اللون الأبيض"، كما لم يتبقّ للفرنسي من أسفل السلم الاجتماعي من سبب للفخار النفسي سوى "فرنسيته"، والتي يلوّح بها ضد اللاجئين والمهاجرين.

لكن باومان يشير علاوة على ذلك إلى الخوف الذي يستبدّ بفئة اجتماعية أخرى إزاء ظاهرة الهجرة، من إمكانية فقدان وضعيتها الاجتماعية. ولهذا يتم النظر إلى المهاجرين في لغة برتولت بريشت كـ "رسل للشقاء"، فهم يمثلون في المخيال الجمعي "انهيار النظام" ويحملون إلينا "أنباء سيئة من عالم بعيد"، وعبر ذلك يذكروننا بإمكانية أن نفقد كل ما حققناه.

لكن "أزمة المهاجرين" تفضح أيضاً في رأي باومان تلك الفردية المرضية التي أسّست لها الرأسمالية المعاصرة. أما السياسة، فإنها غالباً ما تعمد إلى استغلال مخاوف الناس وليس للحد منها، وهي تعمل على فرض الطابع الأمني على أشكال القلق والمصاعب التي تنمو في سياق يحكمه غياب الأمن الاجتماعي.

إنها تستغل في وضوح، كما هو الحال في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية ودولٍ أخرى، مأساة المهاجرين من أجل شراء الأصوات وابتزاز المجتمع. وكلما "غاب المنطق في هذا السياق، كلما زادت قدرة السياسيين على الإقناع"، يقول باومان. وتقود هذه النزعة السياسية ـ العقلانية ـ الأمنية إلى ما يسميه باومان بصيرورة نزع الطابع الأخلاقي Adiaphorisation عن العلاقة التي تجمع مجتمع الأغلبية بالمهاجرين واللاجئين والغرباء.

وبلغة أخرى: إن الأخلاق لن تكون المعيار المحدد لطريقة التعامل معهم. من شأن ذلك أن يحرّر مجتمع الأغلبية من الشعور بالمسؤولية والذنب. فإذا تم وضع اللاجئين كلهم في خانة "الخطر الإرهابي"، يصبح حينها أي شكل من أشكال التعامل معهم أمراً مشروعاً.

سيظهر في هذا السياق الموبوء شبح "الرجل القوي"، ويأتي ليهدد القيم الديمقراطية. وهو شبح يجد أصله في الخوف الذي يستبدّ بالطبقة المتوسطة على مكتسباتها الاجتماعية والاقتصادية. يرتبط هذا الخوف بالهجرات الكبرى للشعوب والتغيّرات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة كما ذهب وأوضح ذلك المؤرخ البريطاني إيريك هوبزباوم في "الأمة والقومية". وتبدو في هذا السياق القومية ومعها الانتماء الإثني مثل جدار الدفاع الأخير أمام الانهيار الاجتماعي، وتظهر الأمة، أو رجل الأمة القوي، كـ"ضمان أخير".

تمعن السياسة، بنظر باومان، في نسيان أننا نعيش، ومنذ زمن، في عالم واحد، وأن الدولة ـ الأمة أضحت فصلاً من فصول الماضي، أو أنها لم تعد قادرة على اجتراح حلول ملائمة لشرطنا الكوسموبوليتي، لأن منطقها يقوم على العداء والإقصاء وليس على التعاون الذي أضحى شرطاً لا مندوحة عنه في عالمنا المعاصر. إن ما ينقصنا اليوم، يقول باومان، هو "وعي كوسموبوليتي" يتلاءم مع عصرنا، كما تنقصنا، في رأيه، المؤسسات السياسية المناسبة.

يعود باومان في نهاية كتابه، ليؤكد بأن الهدف من تلك الاتهامات والأحكام المسبقة التي تروّج بخصوص المهاجرين يكمن في نزع الطابع الإنساني عنهم أو كما عبّر عن ذلك المفكّر الإيطالي جيورجيو أغامبن، في إدراجهم في خانة Homini sacri ويعني بذلك إنكار كل قيمة دينية أو دنيوية عن القادمين الجدد، ما من شأنه أن يعبّد الطريق لحرمانهم من حقوقهم الإنسانية. ليتم، عبر هذه الصيرورة، الانتقال بمشكل الهجرة من مجال الأخلاق إلى المجال الأمني ومكافحة الجريمة وفي النهاية إلى حالة الطوارئ، يقول باومان، التي جرت العادة على إعلانها حين التعرّض لهجوم عسكري.

المساهمون