هاتف جنابي في "وليمة الأسماك": ما لا تطاله حدود

هاتف جنابي في "وليمة الأسماك": ما لا تطاله حدود

15 نوفمبر 2017
(مقطع من "أرض الأحلام" لـ صدر الدين أمين)
+ الخط -

"سُئلتُ وما زلتُ أُسأل:
من أين أنت
وكنتُ وما زلتُ أجيبُ: من اللامكان
أيولدُ المرءُ من اللامكانِ؟
محراثي بيدي، حفنةُ رملٍ، باقة زهرٍ،
أصداء تبحث عن منبعها،
قصيدة لا تريد أن تنتهي".

هكذا نجد الشاعر هاتف جنابي في "بورتريه 3" من ديوانه "وليمة الأسماك" (دار ميزوبوتاميا، بغداد 2017) يرتاد باب الهوية، سائلاً مسؤولاً عن مبتدأٍ لجذور الذات.
من أين أنت؟(?skąd pan jest). وهكذا على بياض بين قوسين، تلتوي بين سطور حروف اللغة البولندية في سؤال ينزوي كالسهم الخفيّ على سيرة شاعر غريب طاعن في الترحال، قد لا يتوق إلا إلى مكان واسع في القول؛ بعد أن صادرته من أرض إلى أرض أمكنةُ الولادةُ الأولى.

سؤالٌ مغلوط لا يسعى إلا إلى البحث عن بصمات إثنية ضيقة، وكأنما مشتقات الأمكنة ومَحتدُها تُحدّد وحدَها معايير الـ"من- أين- أنتَ؟".

"سماسرةٌ يسخرون من الثقافة،
يسألونني عادة من أين أنت؟
من اللامكان، أقول، يقهقون..." (الطريق الملكي)

الانتماء إلى اللامكان يستدعي المقاومة في مكان لا همّ له إلا الإفلات من قبضة شتى أنواع التسلّط الخفيّة والظاهرة للانضواء في أفق الحياة النيّرة. "كلُّ شيء تتوق إليه ملتبس" (الطريق الملكي).

من قرية قريبة من محافظة بابل من جهة الجنول الغربي، مرورا بالنجف، فبغداد فكركوك أو عبر مختبر المنفى الشائك: تيزي-أُزو، وارسو، إنديانا، بيرمنغهام... تظلُّ الأمكنة منذرةً بإعادة النظر لخلق ما لا تطاله حدود.

لكنْ إذا كان محيط الأمكنة ينحو باستمرار إلى الكشف عن بطاقة الهوية، والمقام، والنسب، والمِلّة؛ فإنّ حسابات الشاعر تُرابط في أمكنةٍ لا وجهَ لها ولا عُرفَ ولا مكان لها إلا ما تفعله اللغةُ وما تؤجّجه صورُ الألفاظ ودروبُ المعاني. وفعلُ اللغة في شعرية هاتف جنابي هو انتباهه إلى أنّ لغة العرب تتداخل في طياتها ذاكرةُ التاريخ الراقدة، ذاكرةٌ تُسافر بنا عبرَ كل ما احتوته اللغةُ العربية من آشوري، وآراميّ، وسوريانيّ وكرديّ، وتركمانيّ، كأصوات متآلفة فيما بينها، متعددة كتعدد منابع حضارة ما أبعدَها اليومَ من التمكّن من الالتقاء بالكون.

"... في قُرَى الكُردِ = كتابٌ مفتوحٌ على النِّصْف
أوْ في دِنانِ الأرمنِ العَطْشى
وابتسامةِ السِّريان التي تُبْحِرُ في التاريخ،
في حياءِ التّركمان ونقشِ الأساورِ،
في تشابُكِ النَّظَرات والجدائلِ والجبالِ
في كلِّ ما تَرَاهُ ساجدًا للمحبَّة،
مُتضرّعًا للمَجَرَّات،
مُطرّزا في نيروز بالنُّور،
مُسْتَغْرِقًا في رأسِ السنة
كنتُ جُنْحَ طائرٍ وتهويمَ فَرَاشة" (من أوراق المدن- كركوك).

في الوقت نفسه الذي يلتفت فيه الشاعرُ إلى ذاكرة اللغة العربية نجده يُهاجر إلى فضاء ثقافيّ آخر، هو فضاء اللغة والشعر البولنديّ الذي الذي ما فتئ يُدْرك من خلال الترجمة والمقارنة والتمحيص في أدبياته، فاعلاً منفعلاً، أفقاً مغايراً للقراءة والكتابة والحياة. ولعلّ قصيدة "الطريق الملكيّ" تمتحنُ في تصوراتها ومُخيَّلها ضروباً من الإبداع كأنما رياحُ الشرق والغرب قد ترامتْ فوق كلّ الحدود.

منْ يتصفحّ ديوان "وليمة الأسماك" يجد أنه يبدأ تحت علامة الذات المسؤولة عن فرديتها، لينتهي تحت علامة الذات الممتَحَنَة لموقعها.

وأنتَ أيها القارئ المجهولُ "من أين أنت؟"، إذا قرأتَ سيقرأك الشعرُ بدوره. إذا قرأتَ قد تبتعد عن الانتماء الأيديولوجيّ العِرقيّ أو الدينيّ وعن أقنعة الخطابة والتبشير... لعلّ جسَدَك سينفتحُ على المجهول "فربّما صحَتِ الأجسادُ بالعللِ".


* كاتب مغربي مقيم في فرنسا

دلالات

المساهمون