هايدغر.. صورة الفيلسوف في شبابه

هايدغر.. صورة الفيلسوف في شبابه

31 أكتوبر 2017
(هايدغر، حوالي عام 1920)
+ الخط -

تقدّم أولى دروس هايدغر كمعلّم في جامعة فرايبورغ، الصادرة ترجمتها الفرنسية حديثاً، صورة غنية بالتفاصيل عن فكر الفيلسوف الألماني في شبابه. و"شباب" هايدغر يعني، لدى غالبية المعلّقين على أعماله، فترة نشاطه الكتابي والفلسفي السابقة لنشره، عام 1927، كتابه الأساسي "الكينونة والزمان".

الشائع، حتى في بعض الأوساط الفلسفية، أن الفيلسوف الألماني (1889 - 1976) لم يبدأ التفكير "فعلياً" إلا مع "الكينونة والزمان". فكرة تقود، في الغالب، إلى التعامل مع أعماله السابقة إما بوصفها "غير موجودة" و"غير مهمة"، أو - وهو أقل الحالين تعسّفاً - بوصفها "تحضيرية" لفترة "نضوجه".

غير أننا، مع قراءة "نحو تعريف لـالفلسفة" (منشورات "سوي")، الذي يضم ترجمة أوّل درسين ألقاهما هايدغر سنة 1919، نجد أنفسنا أمام فكر متطلّب ورصين ومجدّد، لا يذكّرنا بعجالة الأعمال التحضيرية ولا بخفّتها.

صحيح أن عدداً من المفاهيم المفتاحية في هذين الدرسين سيأخذ شكلاً ومضموناً أكثر كمالاً وترابطاً في "الكينونة والزمان". لكنّ هذا التطوّر، في تجربة الفيلسوف، لا يبرّر بالضرورة، اقتطاف جزء من أنضج محصوله الفكري ورمي الباقي، بقدر ما يجدر به أن يمثّل حافزاً للنظر في كامل التجربة، سعياً لفهمٍ أفضل للجديد الفلسفي الذي تقوله، وكيفية وصولها إلى قوله.

كما يوحي العنوان، ينشغل الدرسان، بشكل أساسي، بسؤال الفلسفة وتعريفها. ما الفلسفة؟ ما موضوعها؟ وما منهجها؟ أسئلة قديمة، قِدم الفلسفة نفسها، لكنّها لا تكفّ عن أن تعود جديدةً وتأخذ بريق السؤال الذي لم يسبق طرحه ما إن تُصاغ داخل الأفق الفلسفي، أي بلغة الفلسفة وبعدّتها وفي الفضاء الخاص الذي يجمعها بتاريخها، كما هو الحال مع سؤال هايدغر. بالتأكيد، سؤال هايدغر لا يُجاب بـ"شذرة" تعريفية حكيمة تختصر الفلسفة بكلمتين أو ثلاث.

وهو، إضافة إلى هذا، سؤال لا يرنو إلى "اكتشاف" الفلسفة والتعرّف إليها، كما قد يحدث مع مَن يطرح السؤال، من الخارج، بعدّة المؤرّخ أو الطالب أو غيرهما. إن السؤال الذي ينطرح، في الفلسفة، عن معناها، لا ينبع من جهل بها، بل من تورّط بها سابق على التساؤل.

بهذا المعنى، تبدو صيغة الاستفهام كأنها تحمل، في طيّاتها، بصيصاً ما من الإجابة. إجابة لا تعطي نفسها دفعة واحدة، بل تتدفق وتنمو تدريجياً في الصيغة التي ينطرح فيها السؤال وفي المسار الذي يتخذه بحثاً عنها.

يتقدّم هايدغر في بحثه سالكاً طريق النفي. أيّ أنه لا يعرّف الفلسفة على نحو فجّ، بل يحاول الوصول إلى فهمٍ لها عبر تحديد ما ليس فلسفةً: ما يزعم الفلسفة ويشابهها ويتظاهر بها دون أن يكونها. هكذا، يناقش نقدياً أبرز الأفكار المعاصرة له حول ماهية الفلسفة ويفنّد، واحدة تلو الأحرى، أطروحات التيارات الفلسفية والفكرية الأكثر تداولاً في زمنه.

ينقد، مثلاً، الفكرة القائلة بأن الفلسفة نظرةٌ إلى العالم، وتلك القائلة بأنها "أم العلوم" أو "علم العلوم" أو "نظرية النظريات". حتى فكرة "الفلسفة كعلم أصلي"، كعلم قبل-نظري يجد أساسه في ذاته خلافاً لباقي العلوم؛ حتى هذه الفكرة، التي يقبل بها جزئياً وبشكل مشروط، فإنها تظلّ موضع نقاش وتحفظ لديه.

على أن الكانطية الجديدة (أو المحدثة)، المهيمنة على المشهد الفلسفي الألماني مطلع القرن الماضي، تبقى أكثر ما ينال نصيبه من القراءة والنقد. يضع هايدغر على المحكّ أطروحات هذا التيار في جانبيه القِيَمي المتعالي (الترانسندنتالي) والمثالي النقدي.

كلتا "المدرستين" ترث سؤال المعرفة من كانط وتبحث، على نحوين مختلفين نسبياً لكن متقاطعين جوهرياً، في الحقيقة، في القيم المطلقة، في الموضوعية وفي إمكانية العلم. بعبارة أخرى، تتحوّل الفلسفة مع هذين التيارين إلى نظرية للمعرفة. لكن معرفة ماذا؟ يبيّن هايدغر أن نظرية المعرفة في هذين التيارين تجهل موضوعها، أي "الشيء القابل لأن يُعرف". "تجهله"، بمعنى أنها تفترض معرفته وتعتبرها أمراً مفروغاً منه، لكننا، إذا ما بحثنا في مفهومها له على نحو دقيق، نجدها لا تعرفه، بل تتحدث طيلة الوقت عن شيء آخر تماماً.

أبعد من ذلك: يبيّن هايدغر أن نظريات المعرفة هذه لا تعرف العارف، ذلك الذي يقوم بفعل المعرفة، أي الإنسان. إنها تتحدث عن المطلق والمتعالي والحقيقة والقيمة والمثال والموضوعية، لكنها لا تستطيع الحديث عن الأساسي في كل هذا.

هكذا، يصل الفيلسوف الشاب إلى خلاصة أن هذه الفلسفات، حالها كحال العلم، تظل قاصرة عن فهم التجربة الإنسانية ومعناها. ليس لأنها لا تملك المنهج والأدوات فحسب، بل أيضاً، وقبل كل شيء، لأنها فلسفات نظرية.

وما إن نقول "نظرية" (وبالتالي "موضوعية"، "ذات عارفة" و"موضوع المعرفة"، إلخ) حتى نكون، في اللحظة نفسها، قد وضعنا حجباً سميكة بيننا وبين المعيش ومعناه. إن الأخير ليتحوّل، تحت وقع النظريات، إلى لا-معيش، إلى شيء آخر تماماً لا يشبه ما يختبره الإنسان في حياته اليومية.

فهم تجربة العيش يقتضي أدوات أخرى ومنهجاً مختلفاً. هنا تحضر الفينومينولوجيا كحلّ ذي وجاهة. فهي فلسفة قبل-نظرية، تُعنى بوصف التجربة الإنسانية كما تبدو للإنسان وهو منخرط في عيشه. هكذا، يحاول هايدغر، مع فينومينولوجيا معلّمه هوسرل، فعْل ما فشل الآخرون في فعله، أي مقاربة تجربة العيش فلسفياً من دون تشويهها بالنظريّ. لكنّنا، مع فلسفة هوسرل، نظلّ حبيسي "العودة إلى الأشياء ذاتها". تحتاج الفلسفة، أيضاً، إلى العودة إلى الذي يعيش هذه الأشياء: الإنسان.

هكذا، يغادر هايدغر "حيّز الأشياء"، كما يسمّيه، ويدخل حيّز البشر. هنا، سرعان ما سيبدو له أن مشكلة المعرفة مشكلة فلسفية فارغة من المعنى إذا ما نظرنا إليها وجودياً. فالإنسان لا ينشغل، في عيشه، بسؤال ما قد يعرف وكيف يمكنه معرفته (وهما سؤالان نظريان)، بل يريد أن يفهم، أن يستوعب. إن تجربة العيش تنبني أساساً على المعنى. والإنسان يسأل، حين يسأل، عن المعنى، ساعياً للفهم.

هنا، يصبح دور الفلسفة أن تفهم ما يفهمه الإنسان وما يريد فهمه. ولفعل ذلك، لا بدّ لها من التمكّن من بداهة العيش كما نعيشه في الحالة الطبيعية، من دون أن تحوّره النظريات. يجد هايدغر الشاب ما يبحث عنه في فلسفة التأويل. هذه الأخيرة، مع الفينومينولوجيا، كفيلة باستضافة الحياة والكينونة في الفلسفة.

المساهمون