شيركو فتاح: بغداد ومتاهات الزمن الاستعماري

شيركو فتاح: بغداد ومتاهات الزمن الاستعماري

13 مارس 2015
(تصوير: فيليب ماتساس)
+ الخط -

"بلد أبيض" هي الرواية الرابعة للكاتب العراقي الألماني شيركو فتاح. رواية صدرت حديثاً بعنوان "لص من بغداد" عن "دار ميتيليي" الباريسية، بترجمة عن الألمانية لأوليفيي مانوني، وينقلنا فتاح فيها إلى تلك الفضاءات الوسيطة التي تختلط فيها الثقافات.

تجدر الإشارة بدايةً إلى أن هذه الرواية الضخمة (468 صفحة) تتضمن عدداً من الموضوعات الحاضرة في رواية فتاح السابقة، "السفينة الغامضة". فمثل الشخصية الرئيسية في هذا العمل، كريم، يصطدم بطل "بلد أبيض"، الشاب أنور، بقدرٍ مأساوي.

إذ نجده يتأرجح وفقاً لأحداث لا يتحكّم إطلاقاً بها، منحرفاً وتائهاً، يستغلّه حُماة مزيّفون. وأكثر من كريم، يلوّث أنور يديه بقبوله المشاركة في مغامراتٍ قاتلة، مواجهاً بشكلٍ ثابت سؤال الخيانة، يحرّكه الطموح في أن يصبح ما وُلد كي يكونه، ويجهله. إنه كائنٌ بعيد عن الواقع، يميل إلى الخمول أكثر منه إلى الحركة والفعل المدروس: "فعلتُ ما اعتدتُ أن أفعله حين كان الوضع يمنعني من الحراك: الاستسلام للحلم"، يقول في مكان ما من الرواية.

ومع أن فضاء الكاتب يتمدد، مرةً أخرى، بين العراق وأوروبا، إلا أنه سيرجع هذه المرة إلى زمنٍ أبعد، وتحديداً إلى المرحلة الممتدة بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي، علماً أن الحقب والأماكن تتجمّع على شكل "مربِكة" (puzzle)، مع نقطة انطلاق للرواية تقع عشر سنوات بعد الحرب العالمية الثانية، وكان أنور قد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، وفقد جزءاً من ذاكرته بسبب حادثة مشؤومة؛ فقدان يسمح للروائي ببلبلة التسلسل الزمني الطبيعي من أجل منح للزمن المُعاش كثافةً أخرى.

وفوراً يتمايز أنور عن سير الأحداث التي ستزعزع العالم وتُخرج منطقتنا من خدرها. في البداية، يرفض البقاء في بغداد لعيش الحياة نفسها التي عاشها والده. والسبب؟ ترداد الأخير أمامه أن العراقيين ناموا على ماضيهم المجيد، وأن قدوم الأوروبيين إلى العراق هو الذي كشف عظمة آثار تاريخٍ أفلت ممن صنعوه: "البريطانيون، أساتذتي وجميع الذين التقيتُ بهم لاحقاً كانوا يحبّون ما هو قديم جداً في هذا البلد، أشياء كنا قد نسيناها منذ زمنٍ طويل. كانوا ينبشون مكعبات حجرية ضخمة، محاربين وأسود كانوا يتماثلون بها. كانوا يسمّون هذه الأشياء ثقافتنا".

وفي هذا السياق، يضع فتاح على لسان بطله هذه الكلمات التي سيقولها بسخرية: "اضطروا إلى المجيء لتشييد البلد الذي نعيش فيه منذ زمنٍ غابر". إذ لن يلبث أنور أن يتحرر من "منطق" والده ويبدأ البحث عن مرشدين جدد، فيقع على شخصيات سافلة، أوّلهم مالك اللص والمجرم الذي سيعلّمه تسلّق جدران المنازل، ما سيُنقذ حياته أكثر من مرة؛ ثم نضال الذي يتزعّم مليشيا ويفوّضه بمهمة حراسة ابنه، السافل مثل أبيه، ويقذف به في أتون الحرب التي كانت مشتعلة في أوروبا، حيث سيستلمه الدكتور شتاين، وهو طبيب نازي ومدمن على المخدرات سيُنقذ حياته ويساعده على العودة إلى بلده، لكن بحالة عقلية يرثى لها.

إذن، لا نهاية سعيدة للرواية، ففور وصوله إلى بلده، سيستأنف أنور من جديد علاقاته برفاقه القدامى، ومن بينهم أشخاص من الطائفة اليهودية كانوا يحلمون بالثورة في الثلاثينيات، قبل أن يفضّلوا عليها الهرب إلى "إسرائيل".

العنوان الألماني للرواية، "بلدٌ أبيض"، يحمل طابعاً سياسياً واضحاً لكونه يستحضر الاسم الذي منحه القائد النازي هاينريش هيملر لأراضي شرق أوروبا التي ادّعى "تطهيرها" من الشعوب غير المرغوب فيها، من أجل تحويلها إلى أراضٍ جرمانية.

أما العنوان الفرنسي، "لص من بغداد"، فينخرط ضمن مخيّلة "ألف ليلة وليلة"، علماً أن الجانبين حاضران في الرواية التي تتوقف ملياً عند عملية تجنيد غرباء كمعاونين داخل الفرق النازية التي اضطلعت بمهمة التطهير العرقي في شرق أوروبا.

بعض شخصيات الرواية حقيقي، مثل قائدَي الجيوش النازية في فرسوفيا، أوسكار ديرليفانغر وبرونيسلاف كامينسكي، اللذين قاما بإنشاء وحدات قتالية تتألف جزئياً من غرباء واشتهرت بقسوتها؛ وقائد الشرطة الألمانية، هاينز راينفارت، الذي نسّق شخصياً عمليات الوحدات المذكورة؛ ومفتي القدس محمد أمين الحسيني، الذي لم يختر التحالف مع الألمان إلا لمحاربة المستعمر الإنجليزي في فلسطين، علماً أنه فات فتّاح التذكير، ولو بسرعة، بأن العرب الذين حاربوا في صفوف الحلفاء، خلال الحرب العالمية الثانية، كانوا أكثر بكثير من أولئك الذين حاربوا مع ألمانيا، كالفلسطينيين الذين انخرطوا في الجيش البريطاني والمغاربة الذين انخرطوا في جيش فرنسا الحر؛ كما فات فتّاح الإشارة إلى أن عدداً كبيراً من العرب انتهوا في معسكرات الموت النازية.

لكن يبقى إطار الرواية التاريخي أوسع من فصل الحرب العالمية الثانية. فلأن أنور وُلد عام 1921، يتطرّق الكاتب إلى مرحلة حكم الملك فيصل في العراق، ثم إلى حلول ابنه، غازي، مكانه عام 1933، متوقفاً عند انتصار الأفكار القومية المتطرفة في أوروبا، بموازاة تطوّر الحس القومي في العالم العربي، لكن من دون الخلط بينهما؛ ومشيراً، عبر أصدقاء أنور، إلى اعتقاد كثير من العراقيين باستمرارية التفاهم التاريخي بين مختلف طوائف بلدهم، بفضل الثورة الشيوعية؛ ثم إلى حيرتهم خلال الحرب العالمية الثانية بين التحالف مع لندن أو برلين أو موسكو؛ ومصوّراً استيقاظ بغداد من خدرها آنذاك مع تدخّل الحكومات الأوروبية في مصيرها.

أما أنور فيثير اهتمامنا على طول الرواية، وأحياناً شفقتنا، لكننا لا نتعاطف إطلاقاً معه، رغم قصة الغرام المؤثّرة التي ستجمعه بالشابة مريم، ويساهم شخصياً في جعلها مستحيلة. فهو يريد أن يبقى ماضيه خلفه مثل حقيبة منسية، وألا يؤثّر هذا الماضي على عواطف مريم تجاهه. وسيجهد للبقاء في نظرها ذلك الشاب الذي تحتار في المراهنة على مستقبله. "ابق الشخص الذي كنتَ"، ستكتب مريم له، من دون أن تدرك شيئاً عن الطريق المنحدر الذي سلكه.

كما لن يتحرر أنور من نماذج الطفولة، بل سيُبقي على أبطال أفلام المغامرات كمراجع له. كما لو أن حياته هي سلسلة أدوار أدّاها ببراءة، كي لا نقول بسذاجة. ففي نهاية الرواية، يقول: "هكذا، يداي في جيبَيّ، عائداً بخطوات بطيئة إلى الحانة، رأيتُ نفسي من جديد، وكأنني داخل فيلم. كنتُ سعيداً من نفسي، وبدا مظهري أكثر تلاؤماً مع ما كنتُ".

وبالتالي، سيصبح أنور شخصاً مصاباً بفصام، يقتل كما لو أنه ليس هو مَن يقتل، يساعده حظه وغريزة بقاء مدهشة. وفي النهاية، وبسبب إصابته بجرح بليغ، يضطر إلى عصب رأسه كلياً، وحين ينزع الضماد، لن يتطابق وجهه المشوّه مع وجه ذلك الشاب الذي كانت له طموحاتٌ أخرى.

دلالات

المساهمون