"تنظيم حرية الإعلام": سيوف معلّقة فوق الكلمة

"تنظيم حرية الإعلام": سيوف معلّقة فوق الكلمة

18 ديسمبر 2015
فردون البرينسي/ تونس
+ الخط -

يظل قانون حرية الإعلام معادلة صعبة بين ضمان الحرية والوقوع في الإفراط فيها. غير أن الإشكالية أبعد من ذلك، فالنصوص القانونية ليست سوى عنصر من بين عدة عناصر أخرى متداخلة في المسألة الإعلامية.

في كتابه "تنظيم حرية الإعلام"، الصادر مؤخراً في تونس، يتصدّى رجل القانون التونسي محمد عبو لهذه القضية، محاولاً تبيان "حدود حرية الإعلام" ضمن مقاربات قانونية وتاريخية واصطلاحية.

يعتبر عبّو أن حرية الإعلام هي "الحرية الرمز بالنسبة لبقية الحريات"، وهنا يحملنا إلى فهم تأويلي لوظائف الإعلام مُحيلاً إلى فروقات المصطلحات المؤدية له، وواضعاً إياها في أطر فكرية ومعرفية كإحالته إلى تساؤل الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط "عمّا عسى أن تكون أهمية تفكيرنا وصوابه إن لم نفكّر نوعاً ما ضمن الجماعة مع آخرين".

من هنا يمر إلى إشكالية "حرية الإعلام"، في ظل متغيّراتها مع تلك الثنائية بين حرية الرسالة وحقوق المتلقي، خصوصاً وأن الإعلام "ظاهرة تتغلغل في كل أوجه الحياة وتجعلها موضوع اهتمامها".

يعود عبّو إلى عرض تاريخ الصحافة منذ ظهور الطباعة، ليبدأ بتتبّع القوانين الموازية لصدور الصحف منذ قانون فرانسوا الأول (1537) الذي كان حبّه للكتب وجمعها "بما يدعم مجد ملكه" دافعاً لفرض إجراء الإيداع القانوني، والذي تحوّل في مرحلة لاحقة إلى غاية أخرى هي الرقابة المسبقة للنشر.

بعد ذلك، أصبح النشر بدون إعلام مسبق جريمة تصل عقوبتها إلى الإعدام ما أنتج حركية لدى المفكرين ورجال القانون في بريطانيا وفرنسا للحجاج على ضرورة فسح المجال أمام حرية التعبير، وهو ما توّجته الثورة الفرنسية بالتنصيص على حق الصحافة ضمن "ميثاق حقوق الإنسان". غير أن هذه المبادئ كانت دائماً ما تجد أمامها عقبات على المستوى التنفيذي.

يصل بنا المؤلف إلى سنة 1881 حين صدر قانون الصحافة الفرنسي (لا يزال ساري المفعول) ليعرّج بهذا السرد التاريخي صوب العالم العربي، تحديداً إلى تونس. يرى عبّو أن الصحافة عند وصولها في القرن التاسع عشر، أربكت السلطة، ولم ترفع التضييقات عنها إلا مع اقتناعها بمصلحتها منها، ضمن وعي بضرورة وضع شروط وضوابط تجعلها كذلك.

مع مجيء الاستعمار، اختلط الأوروبيون بالواقع المحلي ونقلوا تقاليد الصحافة، ما أفرز عدداً كبيراً من الجرائد، وكانت السلطات الاستعمارية فطنة لدور الصحافة، ولترصّد الحركة الوطنية الناشئة للفرص التي تتيحها للتعبئة، لذلك وضعت هي الأخرى شروطها، بالخصوص قانون 1936، "ما أسفر عن احتكار قطاع الصحافة من قبل أصحاب الأموال الأوروبيين"، رغم ذلك ظلت الصحافة فضاء لصراع شرس بين السلطات والوطنيين.

بعد الاستقلال، وُضع قانون خاص بالصحافة (1956) وكان هدفه الأساسي هو التضييق على دخول النشريات الأجنبية، وبتراكم النصوص حول تنظيم الإعلام، صدرت "مجلة الصحافة" في 1975 والتي يرى فيها عبّو أنها عودة إلى قانون 1936 إذ "وقع اعتبارها سيف ديموقليس المسلط على تعددية الرأي".

بانتقال السلطة إلى بن علي في 1987، وقع تنقيح فصول المجلة، لكن عبّو يلاحظ أن التغييرات في النصوص لم تكن سوى شكليات مع بقاء نزعة النظام في احتكار الإعلام، ليقف بنا عند سنة 2011 مع وضع نصوص جديدة تنظم حرية الإعلام في تونس بعد الثورة، وهو ما سيدرسه بأدوات قانونية وسياسية، خصوصاً وأن "السياسة أصبحت تمارس عن طريق وتحت إكراهات وسائل الإعلام"، مشيراً إلى أن الأنظمة، سواء ديمقراطية أو استبدادية، لم تعزها الوسائل والحجج لقمع حرية التعبير من خلال التخوّف على الأهداف التنمية والاجتماعية والأمنية وغيرها.

لعل من أبرز ما يلتقطه القارئ غير المتخصّص في القانون هو إعادة النظر في قضايا متعددة متعلقة بالإعلام من خلال استتباعاتها القانونية، مثل السبق الصحافي أو الاحتماء بالجهل بالقانون أو زيف المعطيات وإثبات القصدية وتبادل الرسائل في زمن حقيقي وتمويل وسائل الإعلام.

يشير عبّو إلى مفارقة في كتابه، فالقانون التونسي يستند في تنظيم الصحافة إلى القانون الفرنسي، إلا أنه يلاحظ بأن لم تقع الاستفادة "من اجتهادات فقه القضاء الفرنسي الذي يمتد إلى قرن وثلث القرن". هكذا نفهم أن التنقيحات والضمانات لن تكون سوى نصوص شكلية، في حال كان الإعلام يعيش ضمن مناخ عام من التزييف وبلا أخلاقيات مهنية.


اقرأ أيضاً: "المركز العربي" و"معرض جدة": قصة منع وأفكار

المساهمون