"هيمنة ناعمة": صعود القوّة المصرية وانحدارها

"هيمنة ناعمة": صعود القوّة المصرية وانحدارها

06 نوفمبر 2015
(عبد الحليم يصافح عبد الناصر في إحدى الحفلات الرسمية)
+ الخط -

عندما اصطحب الرئيس المصري الحالي مجموعةً من الفنانين والإعلاميين، في زيارته إلى ألمانيا في يونيو/ حزيران الماضي، أثار الأمر سخريةً وانتقادات لاذعةً على مواقع التواصل الاجتماعي.

كانت صور الفنّانين والإعلاميين، وهم يحملون أعلام مصر وصور عبد الفتّاح السيسي، كفيلةً بإعادة النقاش حول مفهوم "القوة الناعمة"، الذي بدا أن مصر تعيش لحظةً مربكة في محاولة استعادته وإعادة توظيفه.

في كتابه "هيمنة ناعمة.. صعود وتراجع القوة الناعمة المصرية"، الصادر حديثاً عن "دار العين المصرية"، يحفر الباحث في العلاقات الدولية أحمد محمود أبو زيد في هذا المفهوم، مقدّماً قراءات نظرية فيه، قبل أن يعمد إلى إبراز تجلياته عالمياً، وتتبّع خطّ تصاعده وتراجعه في مصر، منذ ثورة 1952.

يُشير أبو زيد، في مقدّمة الكتاب، إلى أن الاهتمام بمفهوم "القوّة الناعمة" لم يبدأ إلاّ قبل عقدين ونصف، على يدي الأميركي جوزيف ناي، الذي يعرّفه بأنه "استخدام وتوظيف قوّة الثقافة والقيم الأخلاقية والسياسية لتغيير الأوضاع السائدة في مجتمع ما". إنه نفسه تعريف الحرب لدى الليبراليين، في مقابل تعريفها لدى الواقعيين بأنها "استخدام القوّة العسكرية لإرغام العدو على تنفيذ رغباتنا واتباع إرادتنا".

يعتقد الباحث أن المنطقة العربية هي من أكثر مناطق العالم التي تشهد اختلالًا بنيوياً في ممارسة القوّة الناعمة. فمن ناحية، تخضع إلى تجريب هذا المفهوم أميركياً، "فهو مثل جميع النظريات السياسية الغربية يدور تجريبه، وجوداً وعدماً، مع دوران المصالح الوطنية الأميركية"، ومن ناحية أخرى، يكاد يكون المفهوم حاضراً بقوّة لدى جميع الدول التي تسعى إلى ممارسة دور في المنطقة؛ مثل بعض الدول الأوروبية والصين واليابان وتركيا وإيران.

يتضمّن الكتاب ثمانية فصول تبحث كلّها في هذا المفهوم وتطبيقاته في أميركا ودول أوربية ودول الخليج العربية. قبل أن ينتقل، ابتداءً من الفصل الخامس، إلى النموذج المصري، محاولاً إبراز مصادر وأشكال القوّة الناعمة لمصر، وكيف جرى استغلال وتوظيف هذه القوة في تحقيق مصالحها الوطنية والقومية، ومعرفة ماهية العوامل والمسببّات التي أدّت إلى تراجع تلك القوّة على المستوى العربي والإقليمي، وتداعيات ذلك على مستقبل مصر والمنطقة، والسبيل إلى تجديد هذه القوّة.

يعتقد أبو زيد أن مصر كانت صاحبة القوّة الناعمة المهيمنة على المستوى الإقليمي لمدة تزيد عن ثلاثة عقود قبل قيام ثورة 23 يوليو، كما هي بعدها أيضاً بثلاثة عقود. فالثقافة والأفكار والقيم المصرية الخارجية وممارساتها الديبلوماسية ظلّت تمثّل مصدراً للإلهام والجذب لجميع دول المنطقة العربي، وأسهم المفكّرون والمثقّفون والفنّانون والإعلاميون والدبلوماسيون ورجال الدين المسلمون والمسيحيون، مع المؤسّسات، في تشكيل الوعي الجمعي للشعوب العربية، وفق تعبيره.

يخصّص الكتاب حيّزاً هامّاً للحديث عن "النموذج المصري" بعد ثورة يونيو 1952 وبداية "العصر الجمهوري"؛ راصداً سيطرة "الدولة وتنظيماتها على الأنشطة الثقافية والفكرية السينمائية الخارجية".

ورغم تسجيل الباحث تحفّظه على هذا الأسلوب، بالنظر إلى أن "القوة الناعمة تمارسها، بالأساس، قوى مجتمعية غير رسمية. وكّلما ابتعدت الدولة عن ممارستها وصياغتها، كلّما كان ذلك أفضل"، إلاّ أنه يؤكّد نجاعته؛ بحيث شهدت مصر، حسبه، خلال الخمسينيات والستينيات، وتحديداً بين 1955 و1966، أكبر توسّع لها، خلال القرنين الماضيين، في تصدير نمط الحياة المصرية من أفكار وآداب وموسيقي وتعليم وطريقة الحياة الاعتيادية ونشرها خارج حدودها. تجلّى ذلك من خلال انتشار الإذاعات والمجلات وهيمنة السينما والموسيقى المصريَّين وتأثير الجامعات والمدارس والأزهر.

هنا، يؤكّد أن ذلك حدث انطلاقاً من "وعي القيادة السياسية بأهمية الثقافة كظهير وداعم للاستراتيجية الوطنية المصرية".

يربط أبو زيد تنامي القوّة الناعمة المصرية في عهد عبد الناصر بقوّة النظام السياسي نفسه؛ فمعاداة عبد الناصر للهيمنة الاستعمارية ومساعيه لتحقيق الوحدة العربية ومساندة حركات التحرر، حسب ما يذهب إليه، جعلت مصر تلعب دوراً قياديًا ومحورياً في المنطقة.

ومع هزيمة 1967، يرصد الباحث ما يسمّيه اهتزازاً لصورة النموذج المصري في الخارج وانكساره في الداخل، وهو ما جعل "توهّج القوّة الناعمة يخفت تدريجياً". وبعد وفاة عبد الناصر، يقول أبو زيد إن هذه القوّة شهدت تراجعاً بطيئاً طيلة السنوات السبع الأخيرة من حكم السادات، واستمرّ ذلك طيلة حكم مبارك الذي ظلّت أغلبية الدول العربية مقاطعة له حتى قبيل حرب الخليج الثانية (1990 - 1991).

يرى أبو زيد أن السادات أضرّ بأمن مصر القومي، حين شدّد على أن الانتماء الأوّل للسياسة الخارجية يجب أن يكون مصرياً، واصفاً ذلك بأنه "اتجاه شوفيني" يعتمد على انسلاخ مصر عن تراثها العربي والإسلامي، مضيفاً أن هذا الخيار قدّم صورة فجّة من صور التبعية لأميركا، وهو ما أصب القوّة المصرية بمقتل، وجعل مصر منبوذةً من جيرانها وحلفائها، وهي حالة ورثها مبارك.

يضيف: "تردّي الأوضاع الاقتصادية وضعف القدرة العسكرية وصعود قوى إقليمية أخرى سحب البساط من تحت الأقدام المصرية"، مستشهداً هنا بتحذيرٍ للخبير في العلاقات الدولة، أسامة غزالي، من أن تراجع الدور المصري يجعل المنطقة العربية في مواجهة ثلاثة خيارات هي: "مظلّة العصر الإيراني" أو "العصر التركي" أو حتّى "العصر الإسرائيلي".

يؤكّد أبو زيد أن السبب الرئيسي لانحدار القوّة الناعمة هو تراجع مصادر القوّة الصلبة السياسية والعسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، واصفاً العلاقة بينهما بأنها طردية، ومن أمثلة ذلك – كما يشير - غياب إعلام مصري مؤثّر عربياً وعالمياً، مستشهداً بدراسة للباحث شبلي تلحمي وصلت إلى أن "مصر لم تعد أكثر الشعوب العربية شعبية". ومجدّداً، يؤكّد أن السبب الرئيسي هو نوعية النظام السياسي، ملخّصاً ذلك بقوله "لا قوّة ناعمة دون قوّة خشنة".

ولإعادة تجديد القوّة الناعمة المصرية، يقترح أبو زيد ثلاثة متغيّرات أساسية هي: الإصلاح السياسي وإعادة شرعية النظام السياسي وجاذبيته وبناء دولة ديمقراطية، وإعادة بناء العامل البشري المصري وتأهيله وضخّ الاستثمارات في مجال الديبلوماسية الشعبية والثقافية.


اقرأ أيضاً: ما الذي بقي من العقّاد

المساهمون