جزائريات قصر أمبواز.. في "ضيافة" المستعمر

جزائريات قصر أمبواز.. في "ضيافة" المستعمر

24 مايو 2014
شواهد قبور مرافقي عبد القادر الجزائري في أمبواز
+ الخط -
رغم الكتب والأبحاث الكثيرة التي تناولت مسار الأمير عبد القادر الجزائري وشخصيته الواقعية/الأسطورية، لا تزال ظروف اعتقاله في فرنسا مجهولة حتى اليوم لندرة المعطيات المتوفّرة حولها.

ما نعرفه هو أن الأمير، بعدما حارب جيش الاحتلال الفرنسي طوال 15 عاماً، قبِل برمي سلاحه في كانون الأول/ ديسمبر 1847 شرط نفيه إلى فلسطين أو مصر مع ذويه وخدمه الذين ارتفع عددهم إلى 97، بينهم 21 امرأة و15 طفلاً وعدد كبير من الرضّع.

لكن بعد رحلة بحرية مرهقة، وجد عبد القادر ومَن رافقه أنفسهم في فرنسا حيث تم سجنهم تحت حراسة مشددة لمدة خمس سنوات: ثلاثة أشهر في مدينة تولون، سبعة أشهر في مدينة بو، ثم أربع سنوات في قصر أمبواز. ويجب انتظار وصول لويس نابوليون بونابرت إلى سدة الحكم في فرنسا كي يتم تحريرهم في تشرين الأول/ أكتوبر 1852، فيتوجّهون إلى تركيا قبل أن يستقرّوا في دمشق.

ولرفع الستار قليلاً عن السنوات الخمس هذه، وضعت الجزائرية آمال شواتي بحثها الذي يحمل عنوان "جزائريات قصر أمبواز" وصدر حديثاً عن دار "لا شومينانت" الفرنسية. بحثٌ مؤثّر تسلط شواتي فيه الضوء على العذابات التي اختبرتها النساء اللواتي رافقن أميرهنّ إلى منفاه، بسبب اقتلاعهنّ بقسوة من وطنهنّ وجلبهنّ إلى بلدٍ غريب حيث عرفن السجن والبرد والجوع، ولكن أيضاً المرض والجنون والموت.

وبمحاولتها استنطاق صمت هذه الحقبة من التاريخ ـ مستوحيةً في ذلك عمل مواطنتها آسيا جبّار التي تكنّ لها إعجاباً كبيراً ـ تخطّ شواتي في كتابها عملية سيرها نحو الحقيقة، مازجةً التحقيق المبني على الأبحاث التاريخية والتقصّي الشخصي الذي يقوم على استثمار الذكريات واللقاءات وأيضاً الانفعالات والتخيّلات. وربما لأنها مسكونة منذ فترة طويلة بالأصوات المكتومة لأولئك النساء، نجدها لا تهمل أي معطى، موضوعياً كان أو عاطفياً، فتتمكن بفضل ذلك من إسماعنا هذه الأصوات.

وبالتالي، فكتاب شواتي هو بحثٌ تاريخي تستحضر فيه وثائق محددة (تقارير، محاضر تفتيش، رسائل...) أو استشهادات من كتب حول الأمير عبد القادر، مسائلة المفردات المستخدمة، كنظرة الرسامين الذين مثّلوا بعض المشاهد التي تتعلق بحياة المعتقلين؛ كما أنه نوعٌ من دفتر يوميات تروي الكاتبة فيه كيف انطلقت في بحثها وسيرورته الفوضوية. وإلى جانب ذلك، نقرأ في الكتاب صفحات سردية تروي شواتي فيها قصة السجينات، وتمنحهن الكلام، من دون تمييز بين زوجات وبنات عبد القادر ونساء الحاشية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن شواتي هي الكاتب الأول الذي يهتم بهذا الموضوع ويستقصي وثائق قيّمة تمنحنا معلومات دقيقة حول الظروف الصحية المأساوية التي عاشت فيها أولئك النساء، وحول أنواع الحرمان التي فُرضت عليهن، وحول تفاقُم مشاكلهن من جراء تصادُم ثقافتهن بالثقافة الفرنسية واختلاف نمط عيشهن عن نمط عيش الفرنسيين؛ وأخيراً حول هذيان المستعمر الفرنسي في ما يتعلّق بـ"مهمته التمدينية" في الجزائر.

في البداية، يربكنا مسعى شواتي المفتوح على مصراعيه، خصوصاً بسبب هندسة كتابها المعقّدة. إذ تتعاقب داخله فصولٌ قصيرة بعناوين متنافرة وأساليب كتابية مختلفة، تتراوح بين جُمَل قصيرة مينيمالية في الجزء الذي يظهر على شكل دفتر يوميات، وجُمل طويلة مجرّدة من أي زخرفة أو تكلّف في المقاطع السردية.

الكاتبة والغلاف

لكن ما إن نتقدم في القراءة ونعتاد على قفز الكاتبة المتواتر من مكانٍ إلى آخر، ومن زمنٍ إلى آخر، ومن أسلوبٍ إلى آخر، حتى تتجلى لنا حبكتها الفريدة التي تربط الفردي بالجماعي، والماضي بالحاضر، والأموات بالأحياء؛ ما يحوّل الكتاب إلى نصٍّ يتعذّر تصنيفه، تختلط داخله الأجناس الكتابية والنبرات بطريقة تمكّننا من التآلف مع معاش أولئك المنسيات ومن إدراك حجم معاناتهن وتضحياتهن.

دلالات

المساهمون