إلى صديقي الغائب

إلى صديقي الغائب

19 سبتمبر 2021
+ الخط -

كنتُ ملازماً صديقاً، زميلاً وأخاً عزيزاً، عرفته عن قرب أقدّره وأجلّه جداً... وهذه العلاقة استمرت في ما بيننا لأكثر من أربعين ربيعاً، إلّا أنّي أجده، وللأسف، يقف بعيداً عني أميالاً وأميالاً بدون ذنب اقترفته، وكل ذنبي أنّي غادرت البلد هرباً من واقع مؤسف ألمَّ به، وحرب مدمّرة أتت على كل شيء، مع أني لم أبخل يوماً في إعانته قدر المستطاع، أو في تقديم يد المساعدة له، وهو في الواقع لم يقصّر في خدمة أو مساعدة ما.

وأجدُ أنّه من باب الاحترام والود، اللّذين أعلقهما وسـاماً على صدري، وهذا طبع متجذّر فيّ، وما تعلّمته من تجارب شخصية أن أُحافظ على هذه العلاقة من الترهّل مهما أصابها من فتور، وعلى الرغم من الجسور التي تقطعت معها كل السبل بعد أن كانت تجسّد قمّة في الود والإخلاص والوفاء الذي عَرفته خلال سنواتها المُبعدة التي شهدتها، وكانت مثار فخار واحترام الكثير من الأصدقاء.

وكان صديقي المتفرّد مثالاً يُحتذى في خدمة الناس، كل الناس، صغيراً كان أم كبيراً، ومحبوباً بطبعه. وهو من سلالة طيّبة، وعرق أصيل، ومن ثوب كريم لم يفصلني عن لقائه يوماً، وطوال السنوات الماضية التي قضيناها مع بعضنا البعض في ود وتراحم، أيّ عارض ما إلّا بسبب الأشغال التي نقوم بها وكانت بالكاد تخرج عن إرادتنا.

كان بالنسبة لي وما زال، هو مدرستي وموجهي الأول. تعلمتُ في ظلّه الكثير في معرفة الناس، وكنت دائماً أشبهُهُ بوزير خارجية، وهو يصلح لذلك، لا سيما أنَّ هذه الصفة تليق به وعن جدارة واقتدار، نتيجة خبرته الطويلة في الحياة، على الرغم من صغر سنه، وعلاقاته الواسعة مع الناس، وإحساسه المرهف، والأهم من كل ذلك دماثة أخلاقه وأسلوبه المنمّق الذي ينمّ عن شخصية متزنة لها وزنها.

يبدو، أنه فضّل الاعتكاف في بيته على علاقاته بالأصدقاء والمحبين، فلم تعد تعني له العلاقات مع الأصدقاء أو غيرهم شيئاً!

إنّه إنسان واعٍ وذكي جداً، ولمّاح إلى حد بعيد. متميّز في فطنته وفي أخلاقه وحتى في حنكته وتقاليده التي جُبل عليها، وفي الأعراف التي ينتمي إليها، فضلاً عن حسّه الإبداعي، وفي التفاتته التي تخلو من أي لون من ألوان الحقد أو الكره لأحد!

إنسان كبير بفكره، ومحبوب بتصرفاته، وأكثر ما يمكن أن أقول عنه، أو أقدمه للناس وأن أعرفهم به، على أنَّه إنسان نشط جداً، مُحب لفعل الخير، ميال لأصدقائه ودافعه بصورة دائمة خدمتهم بدون تذمّر.

إنّه بسيط جداً في مظهره، ومتفهّم أكثر لعمله الذي يوليه أهميةً كبيرةً، ولعلاقاته الطيّبة مع شرائح المجتمع. إنّه صديق الطفولة والشباب معاً..

لهذا الصديق أقول، وعلى الرغم من الفراق والبعد الذي فقدنا فيه أجمل الذكريات، وأيام الصبا، ورياحين النعناع البري وأصالته، فإنّ محبته تظلّ محفورة في قلبي وفي وجداني وفي ضميري، على الرغم من أنه بادر متحدياً إلى قطع صلة العلاقة التي ربطتني به يوماً، ووصلت إلى أعلى مراتبها، ورغم أنّي حاولت مراراً إعادة العلاقة به من خلال التواصل معه عبر وسائل التواصل الاجتماعي "فيسبوك" وغيرها، إلا أنه كان يبرّر ذلك بذرائع مختلفة لا يمكن أن تفوت أو تغفل عن أحد.

وكما يبدو، أنه فضّل الاعتكاف في بيته على علاقاته بالأصدقاء والمحبين، فلم تعد تعني له العلاقات مع الأصدقاء أو غيرهم شيئاً! كل ما أصبح يهمّه الاهتمام بنفسه وبأبنائه، وهذا حقّه، والبعد عن أي صديق مهما كان.. ولم أظن أنّي في يوم ما قصّرت في أي شيء تجاهه، بل كنت من أقرب الناس له محبّاً مخلصاً ودوداً، وهذا طبع جُبلت عليه لا يمكن بحال ان يتغير فيَّ، أو يغيّر الزمن والمكان ما أنا عليه.

يظل بالنسبة لي صاحب فضل كبير، وخدماته لا يمكن لي ان أنساها أو أتناساها يوماً، فهي مغروسة في وجداني وفي ضميري، وهو من أرفع الناس بالنسبة لي مقاماً وأحبّهم إلى قلبي سكناً مهماً أبعدته الأيام عنّي، وبلغت به قَطع صلة العلاقة والود ورفض التواصل، وأيّاً كانت الذريعة!

ومع كل هذا فإنّي أعذره وأكن له كل المحبّة والود والإخلاص، لأنه من منبتٍ طيّب، ومن أسرة كريمة مشهود لها بالكرم والنبل والوفاء وطيب المحتد.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.