BIBI سي
خبر زيارة وفد رفيع من "بي بي سي العالمية" لوزير الإعلام اللبناني في حكومة تصريف الأعمال زياد مكاري، منذ أيّام، كان موجزاً على صفحة الوكالة الوطنية للإعلام إلى درجة أنّه كاد يكون مجرّد عنوان لخبر.
تبحث عن تفاصيل ما قد يكون دار بين الجهتين، فلا تعثر على شيء. تتذكّر الإساءات التي قامت بها هيئة الإذاعة البريطانية لمستمعيها في فلسطين، وخاصّة غزّة لجهة ترويجها بشكلٍ فظ السردية الإسرائيلية بما يتعلّق بعملية طوفان الأقصى، وتتذكّر على الأخص إساءتها لوطنك خلال العدوان الإسرائيلي الهمجي على جنوب البلاد حين سمحت مراسلتها لنفسها بالدخول مع القوات الغازية وتسجيل تقرير ولقاءات مع جنود العدو على أرض لبنانية محتلة، بما يخالف القوانين الدولية أولاً والمهنية ثانياً. وتقول في نفسك إنّ "بي بي سي" ربما التقت الوزير للاعتذار عن تلك الغلطة الفادحة لمراسلتها الإنكليزية، التي أثارت استياء الزملاء العاملين في المحطة البيروتية، وجعلتهم يعلّقون عملهم احتجاجاً حتى سحب التقرير. وتتفاءل أكثر قائلاً إنّها ربما أبلغت الوزير، الذي تُرفع له التحية بالمناسبة لحزمه في التعاطي مع هذه المسألة، بإجراءاتٍ عقابية ربما تكون قد اتخذتها كي لا يتكرّر خطأ فادح كهذا.
لكن الزميلة التي تواصلتُ معها لمعرفة ما دار مع الوزير قالت إنه لم يكن هناك "اعتذار بمعنى اعتذار" بل، "وعد بعدم تكرار ما حصل، ما يعني أنه اعتذار غير مباشر".
لا أعرف ما هي قيمة هذا الوعد لمؤسسة ترفض الاعتذار الصريح عن خطأ جسيم يخرق قانوناً دولياً، متحجّجة تارة باختلاف الآراء حول تصنيف سلوك مراسلتها بين "مدرسة" فكرية تزعم وجودها تقول بمشروعية وجود "صحافي مرافق للجيش خلال الحرب"، في حين أنّ هناك رأياً (هو في الحقيقة قانون دولي) يقول بعدم جواز دخول أرض دولة ذات سيادة من دون موافقة مسبقة! فما معنى الوعد بعدم تكرار ذاك السلوك إذاً؟ وإلى أي تقييم يستند، خصوصاً إذا أُدرج في سياق "أخطاء" سابقة من نوع تعليق "بي بي سي" عمل مراسلين مخضرمين عرب وأجانب في عدّة أقسام منها بسبب "لايك" لفلسطين؟
كان يجب أن يكون هناك اعتذار خطي واضح وليس وعداً شفهياً بعدم التكرار. لكن "هيهات منها الذلة"، تكاد "بي بي سي" تقول.
كان يجب أن يكون هناك اعتذار خطي واضح وليس وعداً شفهياً بعدم التكرار. لكن "هيهات منها الذلة"، تكاد "بي بي سي" تقول.
أخيراً، كشف تقرير بريطاني مذهل عن الهوية المريبة لمسؤول تغطيات الشرق الأوسط في "بي بي سي".
فقد نشرت منصّة "مينت برس" تحقيقاً مطوّلاً ترجمت وسائل إعلام عربية ملخصاً له، كشف فيه المحقّق البريطاني أوين جونز "بالشواهد والوثائق، عن دور رئيس تحرير قسم (الشرق الأوسط) في الشبكة البريطانية رافي بيرغ، في توجيه التغطية لمصلحة السردية الصهيونية، وتحكمه بالعناوين والنصوص والصوَر بما يتماشى مع وجهات النظر الإسرائيلية". ويقول التقرير إنّ "السلطة التي يتمتّع بها بيرغ مخيفة"(..) خصوصاً أنه يمتلك صلاحيات غير محدودة لجهة رفض نصّ الخبر أو التقرير أو إعادة صياغته.
غير أنّ المدهش (هل هو مدهش حقاً؟) كان اكتشاف أنّ بيرغ يتعاون مع.. الموساد الإسرائيلي و"وكالة الاستخبارات المركزية" الأميركية. فهذا الرجل كان قد أنجز كتاباً بعنوان "جواسيس البحر الأحمر" بالتعاون مع داني ليمور، قائد "الموساد"، باعتراف بيرغ نفسه ضمن مقطع مصوّر تحدّث فيه عن قضائه أكثر من مئة ساعة مع ليمور، فيما تظهر وراءه صور له وهو يلتقي بمسؤولين من "الموساد" والحكومة الإسرائيلية، بمَن فيهم ليمور والمتحدّث السابق باسم مكتب رئيس الوزراء مارك ريغيف.
صحيح أن الثقة تبنى "طوبة طوبة" كما يُقال بالعامية المصرية، لكنها تهدم "حتة واحدة" ولن تقوم لها بعد ذلك قائمة
حسناً قد يُقال إنّ صحافيًا يؤلّف كتاباً لا بدّ له من لقاء تلك الشخصيات. صحيح، لكن المشكلة ليست في ذلك بل في الحماسة الشديدة لتلك الشخصيات بدلاً من الحفاظ على مسافة معها!
وقد تطرّقت "مينت برس" إلى هذه النقطة فقالت إنّ تقريرها "لا يدّعي أنّ بيرغ مندسّ (..) بل يضيء فقط على نقطة مثيرة للدهشة، بحيث أنّ الشخص المسؤول عن تغطية (بي بي سي) للشرق الأوسط، يعلق على الحائط صوراً ورسائل لقادة ومسؤولين إسرائيليّين رفيعي المستوى، كما لو كانوا نجوم روك وهو من المعجبين المراهقين"، مستخلصة أن "ارتقاء شخص من هذا الصنف إلى هذه الرتبة مؤشّر واضح إلى نوعية الثقافة في (بي بي سي)، أي ثقافة شيطنة الفلسطينيّين بشكل منهجي وتصنيع الموافقة على الإبادة الجماعية".
أما السيرة الذاتية لبيرغ هذا فتقول وحدها الكثير: فهو تابع "الدراسات اليهودية والإسرائيلية" في "الجامعة العبرية" في القدس، وشارك، في ذروة العدوان الإسرائيلي على غزّة عام 2009، في تظاهرة مؤيّدة لإسرائيل في وسط لندن. وينقل التقرير عن موقع Drop Site News أنّه محطّ شكاوى واسعة من أكثر من 13 موظّفاً في مؤسّسته، يتّهمونه بتغيير التغطية بشكل منهجي لضمان انحيازها إلى إسرائيل، كما أنّه عمل سابقاً في "دائرة معلومات البثّ الأجنبي" (FBIS)، التابعة لوزارة الخارجية الأميركية، وهي منظّمة كانت، باعترافه أيضاً، واجهة للـCIA.
ماذا يقال بعد كل ذلك؟
بالأمس، وقعت على إعلان ترويجي تبثه قناة "إم بي سي" السعودية عن "بي بي سي". يبدأ الإعلان بجملة جذابة تقول "لا تثق بالأخبار؟ معاك حق".
لسذاجتي، ظننت أنّ المؤسسة البريطانية العريقة تحاول أن تمارس النقد الذاتي بعدما هبطت الثقة بتغطياتها إلى أسفل سافلين، وأنها قد أدركت أخيراً أخطاءها المهنية المهولة، بالقياس خاصة إلى معاييرها هي، وإنها بهذا الإعلان تحاول ترميم الثقة مع جمهورها العربي الذي قاطعها معظمه، فتعتذر عمّا فعلته وتحاول أن تطلب المغفرة. لكن سرعان ما تبيّن أنّ الإعلان ليس إلا إعلاناً! وبالنظر إلى ما سبق يمكن إضافة وصف وقح.
صحيح أن الثقة تبنى "طوبة طوبة" كما يُقال بالعامية المصرية، لكنها تهدم "حتة واحدة" ولن تقوم لها بعد ذلك قائمة.
وهذا ما حصل مع القناة التي بلغ من تحيّزها لنتنياهو الملقب بـ"بيبي" ما جعلها تستحق تحويراً في كتابة اسمها ليصبح "BIBI سي".
على الأقل سيكون ذلك خبراً غاية في الدقة.