تناتيش ونغابيش

تناتيش ونغابيش

04 يونيو 2020
+ الخط -
ـ في واحدة من أولى جلسات مجلس الوزراء المصري التي عقدت بعد هزيمة يونيو 1967، قال جمال عبد الناصر للوزراء إن "الواقع الذي تعيشه مصر يقتضي المصارحة من أجل معالجة الأخطاء"، وطلب من الجميع أن يتحدثوا بمنتهى الصراحة عما يرونه من أخطاء وسلبيات، بشرط أن لا يتسرب أي كلام يدور داخل اجتماعات المجلس إلى الخارج. فوجئ الكثير من الوزراء بكلامه المختلف والمبشر، وبدأ بعضهم يحضر نفسه للحديث، ليأخذ حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة زمام المبادرة، ويبدأ في الحديث بانفعال عن الأخطاء التي تم ارتكابها قبل "النكسة"، وعلى رأسها رفع الشعارات العديدة دون تنفيذها، وهو ما أدى في رأيه إلى أن يفقد الشعب الثقة في قياداته، مضيفاً "أن الطريقة التي حكمت بها أجهزة الأمن والرقابة كالمخابرات والمباحث العسكرية أزالت البقية الباقية من ثقة الشعب في قياداته، وقد كنا جميعاً نعرف حكم هذه الأجهزة ونستنكر تلك الشعارات ولكن من دون جدوى".

يروي سيد مرعي الوزير في العهد الناصري ورئيس مجلس الشعب في العهد الساداتي في مذكراته التي صدرت بعنوان (أوراق سياسية)، أن الوزراء فوجئوا بأسلوب حسين الشافعي في الحديث، خصوصاً أنه اختار كلمات ومفردات حادة، لكنهم شعروا أن السماح بكلام مثل هذا يعني أن هناك رغبة فعلية في المصارحة، لكنهم سرعان ما فوجئوا بأن الضيق ظهر على الفور على وجه عبد الناصر، حين تحدث الشافعي بحدة عن الأجهزة الأمنية، لدرجة "أن صوت تنفسه يوشك أن يكون مسموعاً، وبذل مجهوداً من أجل التظاهر بالهدوء وضبط أعصابه" طبقاً لتوصيف سيد مرعي.

بعد أن انتهى الشافعي من كلامه، أخذ عبد الناصر الكلمة وقال وهو يحاول ضبط انفعالاته: "الأخ حسين الشافعي يثير هذا الكلام هنا للمرة الأولى والسؤال لماذا لم يوجه هذا النقد قبل ذلك وإذا كان يعرف كل هذا قبل النكسة فلماذا لم ينبه إليه، وإذا كان لغيره عذر في صعوبة إبلاغي بوجهة نظره فما عذره هو علما بأني كنت دائما أسمح لأي منكم بالاتصال بي في كل وقت وكل منكم يستطيع دائما إبلاغي بما يريد، وكان في استطاعة الأخ حسين أن يقول لي ما يشاء وفي الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يشاء، وكل هذا قبل أن تحدث الكارثة فعلا، ولكن هذا لم يحدث، بدلا من ذلك فإني لا أذكر أبدا أن الأخ حسين الشافعي قد طلب مني أي شيء قبل النكسة أو تحدث معي بشأن أي قضية سوى مرتين اثنتين إحداهما كانت وساطة من جانبه لرفع الحراسة عن أحد الأشخاص والثانية كانت لحل مشكلة تتعلق بأحد أقربائه ولم يحدث في أي مرة أن أثار الأخ حسين الشافعي أي شيء مما يشكو منه الآن، وهو الأمر الذي يريد أن يلقي بمسئوليته على غيره، وإذا كانت تلك هي الصورة كما يراها حسين الشافعي، وإذا لم يكن يشارك قبل النكسة فيما يجري ويوافق عليه فلماذا استمر في الحكم".


ساد صمت رهيب في القاعة، وتغير لون وجه حسين الشافعي تماماً، خاصة أنه لم يتوقع أن يكون لكلماته هذا التأثير على جمال عبد الناصر الذي طالب الجميع بالمصارحة، وهو طلب لم يطل عمره كثيراً، خصوصاً أن حسين الشافعي حاول على الفور التخفيف من حدة أسلوبه وقال إنه لم يكن يقصد التملص من المسئولية، مضيفاً أنه "شخصياً روحي فداء جمال عبد الناصر"، لينتهي اجتماع مجلس الوزراء، وقد حمد الكثيرون من حضوره الله لأنهم لم يتطوعوا بتلبية طلب عبد الناصر بالمصارحة.

حكى سيد مرعي لصديقه محمد حسنين هيكل ما دار في الجلسة، وقال له إن عبد الناصر ربما يكون قد قسا أكثر من اللازم على حسين الشافعي، الذي كانت كلماته "ربما جافة في مظهرها ولكن منطقه مقبول في جوهره"، فقال له هيكل ـ الذي صدر كتاب سيد مرعي في حياته وحياة حسين الشافعي ولم ينف أحدهما ما نشره ـ إنه يختلف مع سيد مرعي في الرأي، لأنه لا يعرف أن لهذا الموضوع جذوراً، وأن حديث حسين الشافعي لم يكن تلقائياً كما بدا في مجلس الوزراء، ووضع الموضوع في سياق أوسع حين قال إن هناك اتجاهاً يمثله بعض رفاق عبد الناصر في استخدام النكسة للتشفي منه شخصياً، "وإذا كنت تتصور أن الرئيس هو الذي كان قاسياً في كلماته فإنني أؤكد لك العكس".

كان سيد مرعي لا يزال متضايقاً مما حدث في مجلس الوزراء، ولذلك قال لهيكل إنه لو كان مكان حسين الشافعي لكان انسحب من الجلسة مباشرة، فضحك هيكل وقال له إنه من الخير أن هذا لم يحدث، ثم قال له إن ما لا يعرفه أن حسين الشافعي حاول بعد جلسة مجلس الوزراء أن يعتذر لجمال عبد الناصر عما قاله، وأنه من يومها طلب مقابلة عبد الناصر أكثر من مرة، ولم يقابله عبد الناصر، لكن هيكل أضاف أن الموضوع سينتهي على خير، وأن الجو ستتم تصفيته بين عبد الناصر وحسين الشافعي في النهاية، وهو ما استبعده سيد مرعي، لكنه فوجئ في الجلسة التالية لمجلس الوزراء بكلام هيكل وهو يتحقق، حيث دخل عبد الناصر قاعة الاجتماع ومعه حسين الشافعي يداً بيد، ليلحس الشافعي كلامه، ويضرب عبد الناصر مثلاً للجميع بأن المصالحة مثل الصبر، لها حدود وخطوط حمراء، وإن كانت تطورات الواقع وتصاعد الغضب الشعبي خصوصاً بعد صدور أحكام الطيران، قد أجبرت عبد الناصر على رفع سقف المصارحة خلال اجتماعات اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي، لكنه حرص على أن تكون تلك الاجتماعات سرية، بحيث لم تنشر محاضرها إلا بعد أربعين عاماً، وكل عام وأنتم بخير.

....

ـ في رواية (لقيطة اسطنبول) تقدم الروائية التركية إليف شفق نموذجاً لأحد مقاهي المثقفين التي تشتهر بها المدن الكبرى، يحمل اسم (مقهى كونديرا) ويقع في شارع فرعي ضيق في الجانب الأوروبي من اسطنبول. تصفه شفق بأنه "مكان تعطي فيه الجرسون بقشيشا لكي يعاملك معاملة سيئة، ولا يعرف أحد لماذا وكيف سمي باسم المؤلف التشيكي/الفرنسي الشهير، خاصة أنه لا يوجد شيئ داخل المقهى يذكر بميلان كونديرا أو بأي رواية من رواياته".

تفرد إليف شفق مقاطع من روايتها التي ترجمها خالد الجبيلي للمناقشات العبثية التي تدور داخل المقهى بين عدد من المثقفين والفنانين من بينهم "رسام كاريكاتير مدمن وشاعر غير موهوب بامتياز وكاتب سيناريو غير وطني يكتب أفلاماً مغرقة في الوطنية"، وفي إحدى هذه المناقشات يتحدث رسام الكاريكاتير عن أزمة المثقفين الأتراك من وجهة نظره فيقول: "إن الضجر خلاصة حياتنا، إذ إننا نتمرغ في الملل يوما بعد يوم، لماذا؟ لأننا لا نستطيع أن نهجر جحر الأرنب هذا خوفا من أن نصطدم بثقافتنا على نحو مؤلم، فالسياسيون الغربيون يفترضون أنه توجد فجوة ثقافية بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية، أرجو أن يكون الأمر بهذه البساطة، لكن الفجوة الحضارية الحقيقية تكمن بين الأتراك والأتراك أنفسهم، إذ إننا مجموعة من الحضريين المثقفين المحاطين بسكان الجبال والريفيين الساذجين من جميع الجهات الذين احتلوا المدينة بأسرها"، ثم يلقي نظرة جانبية من نوافذ المقهى وكأنه يخشى أن تقفز حشود الناس على الجالسين داخل المقهى بالعصي والمنجنيقات، فيقول له الشاعر معجباً بكلامه: "يا عزيزي، إنك تقول شعراً"، لأنه "بوصفه شاعراً يخلو من أي موهبة، دأب على أن يشبّه كل شيئ بالشعر".

يواصل رسام الكاريكاتير تشخيص أزمة المثقفين الأتراك وسط كل ما يموجه به المجتمع التركي المعاصر من تغيرات قائلاً: "لقد علقنا، لقد علقنا بين الشرق والغرب، بين الماضي والمستقبل، فمن ناحية تجد أن العلمانيين العصريين يفتخرون بالنظام الذي أقاموه، ولا تستطيع أن تنقدهم بكلمة واحدة، لأن الجيش ونصف الدولة يقف إلى جانبهم، ومن الناحية الأخرى هناك التقليديون المتمسكون بالتقاليد المفتونين بالماضي العثماني، ولا يمكنك أن تنتقدهم بكلمة واحدة، لأن عامة الناس والنصف الآخر من الدولة يقفون إلى جانبهم، فماذا تبقى لنا؟"، ثم يضع الرسام سيجارته بين شفتيه الشاحبتين المشققتين، ويستمر في وصلة نقد الأوضاع من حوله: "المعاصرون يطلبون منا أن نتقدم إلى الأمام لكننا لا نؤمن بأفكارهم عن التقدم. والتقليديون يطلبون منا أن نعود إلى الوراء لكننا لا نريد أن نعود إلى نظامهم المثالي أيضا. إننا محصورون بين الإثنين. نتقدم خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء. تماما كما كانت تفعل فرق الجيش العثماني، حتى أننا لا نعزف على أي وتر، أين المفر؟ حتى أننا لسنا أقلية. فلو كنا أقلية عرقية، أو شعبا من الشعوب الأصلية لأصبحنا تحت حماية ميثاق الأمم المتحدة، وعندها يمكننا أن نحصل على الأقل على بعض الحقوق الأساسية، أما العدميون والمتشائمون والفوضويون فلا يعتبرون أقلية، بل أصبحنا نوعا منقرضا، وأخذ عددنا يقل يوماً بعد يوم، إلى متى يمكننا أن نبقى على قيد الحياة؟".

كنت قد قرأت قبل أعوام تدوينة تتحدث صاحبتها عن فشل محاولة العثور على مقهى (كونديرا) في شوارع اسطنبول، ولا أدري هل كان هناك مقهى بذلك الاسم فعلاً، أم أن إليف شفق ابتدعته، وإن كنت قد وجدت على (جوجل) مكاناً يحمل عنوان (كونديرا كافيه)، لكنه أغلق مؤخراً بسبب تداعيات وباء كورونا، لكن المؤكد أن ذلك النوع من التساؤلات التي طرحها رسام الكاريكاتير على رفاقه المثقفين في المقهى، لا ينفرد به مقهى كونديرا عن غيره من مقاهي المثقفين، ولا تخص اسطنبول وحدها دوناً عن غيرها من المدن العالقة بين الشرق والغرب، وبين الماضي والمستقبل.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.