اشبعوا بوطنيتكم!
اشبعوا بوطنيتكم!
فيما يتعلق بالوطنية، منذ أن أتيح لي العمل في صحف ومجلات تحظى بقدر كبير من الانتشار، بدأت تصلني ردود أفعال المسؤولين الكبار على ما أكتبه، إما وجهاً لوجه أو عبر مراسيل، لأدرك منذ البداية أن الوطنية كما يفهمها المسؤولون في مصر هي العمل في خدمة الدولة وأن تسمح بتحويل هاتفك إلى لاسلكي، لتوصل ما يريد المسؤولون إيصاله إلى القراء دون أن يكون لك حق النقد أو المساءلة أو التشكك، صحيح أن ذلك كان يُطلب مني بشكل مهذب ولطيف، ربما لأن "سمعتي سابقاني"، وصحيح أنه لم يكن يتكرر حين كنت أرفض الطلب أو أتجاهله، لكني كنت أعرف أن زملاء آخرين لي يُطلب منهم أن يكتبوا ما يُملى عليهم بشكل غير مهذب ولا لطيف، ربما لأن المسؤولين يرون أنهم لا يستحقون التهذيب واللطف.
على مدى السنوات الماضية، حضرت بحكم عملي الصحافي والتلفزيوني لقاءات للكتاب والمثقفين مع الرئيس السابق حسني مبارك والرئيس السابق المشير محمد حسين طنطاوي واللواء سامي عنان واللواء محمد العصار واللواء مختار الملا، وتم استدعائي للقاء مع اللواء ـ سابقاً ـ عبد الفتاح السيسي أيام عمله كرئيس للمخابرات الحربية بعد ما كتبته في (المصري اليوم) عن كشوف العذرية وخطورة الطريقة التي يتعامل بها الجيش مع المتظاهرين، وتم استدعائي للقاء مع اللواء مراد موافي رئيس المخابرات العامة بعد سخريتي في قناة التحرير من حكاية الجاسوس الإسرائيلي الذي حاولوا تشويه ثورة يناير به، وتلقيت عدداً من الاتصالات من كبار مسؤولي مصر في مناسبات متفرقة، كان آخرها بالمناسبة من اللواء عباس كامل في مايو 2013، يدعوني لحضور لقاء للمثقفين والفنانين مع اللواء عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع، وما قلته له في تلك المكالمة جعلها تكون الأخيرة التي أتلقاها من أي مسؤول على الإطلاق، وسأحكي تفاصيل كل هذه اللقاءات والحوارات حين أكتب شهادتي بالكامل، وكم كنت أتمنى أن أجد مكاناً لنشرها داخل مصر ـ امنع الضحك ـ وأثق أن ذلك سيحدث بإذن الله.
كانت تلك اللقاءات والحوارات والاتصالات برغم ودها الشديد، وبرغم ما تلقيته فيها من احترام ولطف ومديح في وطنيتي، وتأكيد على حرصي على الصالح العام مهما كانت كتابتي مختلفة أو ناقدة، أصعب علي بكثير من كل ما تعرضت له من أذى مادي ومعنوي وجلسات تحقيق ومحاكمات قضائية طيلة عملي في الصحافة، فقد تعلمت مع السنين أن اختبار النفس بالترغيب والوعود، أقسى بكثير من اختبارها بالترهيب والأذى، لأن مجابهتك للسلطة تستدعي فيك طاقات من العناد والتحدي وتمنحك صلابة قد تدهشك، لكن اقتراب السلطة منك بالوعود والتزلف والمديح يجعلك تكتشف ضعف النفس البشرية بشكل ربما لا تتصوره على الإطلاق، وأظن أن السنوات القليلة الماضية أرتنا أمثلة عملية لسقوط معارضين ومثقفين كبار، لم يفلح معهم سيف المعز ولا ذهبه، فأفلح معهم تقديره ومديحه، وإذا كان لي أن أفتخر بنفسي في شيء وأحمد الله عليه، فإنني حاولت بقدر الإمكان أن أكون حريصاً على استقلالي ككاتب، حتى لو أخطأت في بعض المواقف، فهي مواقفي، وحتى لو ارتكبت بعض الحماقات، فهي حماقة شغل يد، وليست مرسلة من "جهاز سامسونغ".
بالطبع، حين يشعر المسؤول أنك "تستعبط" أكثر من اللازم في رفض ما يعرضه عليك من فرص وعطايا، وأنك لست مشغولاً بما هو أكثر من أداء واجبك، ينتقل مباشرة إلى التلويح المتدرج بقدرته على إيقاع الأذى بك، وفي حالتي كانت أسهل وسيلة لذلك هي التذكير بأنني يمني الأصل، ولا أملك النقاء العرقي اللازم لجعلي وطنياً على سنة الدولة ولواءاتها، ولذلك يمكن التشهير بوطنيتي المنقوصة في أي وقت لضرب مصداقيتي عند الناس. كان أول تهديد مباشر يأتيني في هذا الصدد، ما تلقيته عقب حلقة شاركت فيها مع الأستاذ يسري فودة في برنامج (آخر كلام) في إبريل 2011، طالبت فيها بفحص ثروات ضباط أجهزة أمن الدولة وأقاربهم المباشرين، بدلاً من الفرحة المتسرعة بالاكتفاء بحل الجهاز وتغيير اسمه، وأذكر أنني قلت لمن أبلغني التهديد إن هذا الكلام ليس جديداً علي، وأنني لا أنتظر شهادة من الأجهزة الأمنية لكي تثبت وطنيتي أو تنفي خيانتي، وأن صحيفة (روز اليوسف) كانت تشن علي حملات يومية في عام 2005، وكانت تستخدم في حملاتها مثل هذا الهراء الذي أدرك أنه سيجد كثيرين يقتنعون به، ويعتبرونه تأكيداً على نقص وطنيتي، لكنني لم أهتم به وقتها، ولم يوقفني عن الاستمرار في الكتابة التي توجع ضباط الأجهزة السيادية، فتدفعهم لتسليط مخبريهم بطريقة "بِستك عليه" التي يدربون عليها الكلاب العضاضة، وأنني لم ولن أهتم بأي حملات تستهدف شخصي، لأنني حريص على أن ينشغل الناس بما أكتبه وليس بشخصي، وسأظل أواجه مثل هذه الحملات بالكتابة وحدها، موقناً أن مفعول الاستهداف الشخصي ـ وهو فعال ومؤثر ـ لا يجدي مع كل الناس، أو على الأقل لا يجدي مع الذين أتصور أنهم مهتمون بالقراءة لي، كما أنه لا يفيد الدولة طول الوقت، بل يتحول مع الوقت إلى سلاح عكسي يثير سخرية العقلاء ويدفعهم للتفكير في مصلحة الأجهزة الأمنية في تشويه فلان أو علان من الكتاب أو السياسيين.
حين يتصور البعض أنني أبالغ في إظهار التجلد وعدم الاهتمام باتهامي المستمر بالخيانة والعمالة، وهي اتهامات تجاوزت المقالات والمواقع والصفحات والحسابات المشبوهة والمضلّلة، لتصل للأسف إلى أوراق النيابة العامة ثم إلى أروقة النيابة العسكرية، أقول لهم إنني أعتبر أن أسمى صورة لحب الوطن، هي أن يقف الإنسان ضد مصالحه من أجل ما يرى أنه أنفع لوطنه، ولذلك لا أعتقد أنني تأكدت من محبتي لمصر، إلا حين رفضت أن أعمل في خدمة أحد، وحين قلت نفس ما أعتقد به وما أكتبه على الملأ، وبنفس الألفاظ والعبارات، في كل لقاءاتي مع المسؤولين التي طلبوا أن تكون سرية وغير قابلة للنشر، ورفضت خلالها بكل وضوح ما عرض علي من مواقع وامتيازات ومصالح، ولا أظن أنني رجل كثير الحسنات، لكنني أتمنى أن يكون ذلك الرفض في ميزان حسناتي، وأتقرب إلى الله به، لكنني أدرك أنه لا يمنحني أفضلية على غيري، ولا يجعل آرائي أصوب ومواقفي أسلم، وإذا كان البعض يعتقدون أن لديهم الوصفة الأمثل للوطنية، وأنها لا تنطبق علي، فهنيئاً لهم بها، لأنني الآن مشغول بما هو أهم وأخطر: الحفاظ على ما تبقى من الصحة، وإنجاز ما تبقى من مشاريع الكتابة والاجتهاد في أن ترى النور ما استطعت، والانتظام في دفع الإيجار وسداد الأقساط، والابتهال المستمر إلى الله بأن يرزقني الستر وحسن الختام.