أول ليالي اليُتم!

أول ليالي اليُتم!

02 يونيو 2020
+ الخط -
كل الأشياء التي تخيفنا هي تلك التي لم تقع بعد، أما حين تحدث، وتصبح أمراً واقعًا، نكتشف كم كنا "خوافين"، فهي ليست أكثر من "شكة دبوس" وكفى..

طبيعي جداً في تسلسل الموت، أن يتوفى الأب قبل بنيه، حتى ولو كان صغيراً.. وتلك هي الصدمة، أما غير الطبيعي، وهو ما يكسر القلب، أنْ يحدث العكس. جدي علي ذلك الرجل الجميل "الكاريزماتيك" الذي يأسرك ويسرق منك الوقت بحكاياته التي لا تنتهي ولا تمل، التقط حفيد ابنه عمي عبد الله له صورة، وثقها بمقال تحدث فيه عن تأثر جدي وبكائه لفقده الابن البكر، رفيقه وصاحبه.

معظم أبناء جدي الذي عمّر طويلاً توفوا في حياته، آخرهم عمي عبد الله الذي توفي عام 1975 عن عمر يناهز الثامنة والسبعون، فبكاه جدي قائلا "يا نا علي يا صغيري"، أما كلمة "يا نا علي" فهي للتحسر وليست كما ذكر أحد أقلام سيف الإسلام المأجورة أن "يانا" اسم يهودي، وابتدع لها قصة غريبة مهينة نشرها وقتها في صحيفة الوطن الليبية التي ذهب بها الحمار بعد فبراير، فلا رجعت ولا رجع الحمار، وكان لي رد عليه وعليها، فأمر بالاعتذار وبرر الأمر على أن ما كتب يمكن تبويبه تحت "شطحات كاتب".

طوال الوقت كنت أنا من يتصل، لكن قبل وفاة أبي بيومين، كلمني أخي الطبيب وبجواره والدي، حكى معي قليلا عن صحته، وقال لي هل ترغب بالحديث مع أبيك، وقبل أن أجيب أكمل حديثه، لكنه قد لا يتمالك نفسه من البكاء إن تحدثت إليه، أجبته إن كان سيبكي فلن أتحدث معه، فهمت أن الكلام موجه لوالدي، وأيقنت أيضا أن أبي هو من طلب منه الاتصال بي إثر خروجه من غرفة العناية بعد إصابته بـ(MI)، جلطة قوية وسط القلب، ولولا أنها كانت قوية بالدرجة الكافية لما قدرت أن تصرع أبي القوي.

لم يسبق لأبي أن عاقبني بالضرب طيلة حياته إلا مرة واحدة. كنت أتردد على الفرقة الموسيقية من الرابعة إلى السابعة، هي في الواقع لم تك فرقة موسيقية فقط، بل كانت تجمعا ثقافيا فكريا شمل الرسم والصحافة والمسرح ومشاهدة الأفلام ولعب الشطرنج وتنس الطاولة، إضافة لاستماعنا لأصوات فنانين كبار وسماع عزفهم. كان معظمهم رفاق الوالد ومن جيله، فقرروا أن يشاهدوا فيلما بسينما (الزني) الحفلة الثانية، وطلبوا مني الذهاب لإبلاغ أهلي حتى يمروا علي ويأخذوني معهم.


كنت دوما أحضر الحفلة الأولى وبي فضول لحضور الحفلة الثانية وحصلت على الفرصة، تخيلت أن الحفلة الثانية تختلف عن الأولى، كون أنه لا يوجد صغار سن فيها، كان المغرب في حدود السادسة إلا ربعاً وقتها، وبعد المغرب جاؤوا واعتقدوا أني أخبرت أهلي لكني التهيت مع أصدقائي ولم أدخل البيت.

السينما قريبة من بيتنا، رجعت راجلا حوالي الثامنة، وكنت قلقاً لحظتها حين أدركت خطأي، فوجدت أبي ينتظر أمام باب البيت، وكان الشارع مملوءاً بشجيرات من الورود، ليتلقفني بكف أوقعني على إحدى تلكم الشجيرات، أمسكني مع يدي واقتادني للداخل برفق وانتهى الموضوع.. كنت وقتها تقريبا أبلغ من العمر عشرة أعوام، أو أحد عشر، وربما اثنا عشر، لا أتذكر بالضبط. كل ما في الأمر أني كنت (صغيرا).

ويوم خابرني أخي، كنت أرغب في سماع صوت أبي لكن لم أحب أن أستمع لصوته باكيا، أبي صاحب ذلك الصوت الصادح المجلجل الذي لطالما استخدمه حين أراد إسكاتنا توقيفا عن فعل خاطئ لم يبد لي عاجزا عن الكلام، لكن صوته ضعيف خافت (مبحوح).

قلت لأخي حسنا افتح (الإسبيكر) وتحدث معي وليصمت هو وينصت فقط، خوفا أن تسوء حالته، وما إن فتح الإسبيكر، حتى شعرت وكأن أبي خطف الموبايل من أخي ورد علي: ألو كيف حالك يا أحمد، كيف حال صحتك، وكيف حال يوسف والبنات وأمهن، لم أسمع أي بكاء في صوته بل أنا من كدت أبكي، فتمالكت نفسي وأجبته مازحا دعك منهم فكلهم بخير طمني عن صحتك.

قال لي بحنان شديد: (رايفت عليك يا أحميدة)، أي اشتقت لك، ولم يسبق لأبي أن دللنا حين التلفظ بأسمائنا، أجبته وأنا كذلك يا أبي، أنا أيضا مشتاق إليكم جميعا، (شد روحك) وحافظ على صحتك، وسأحضركم إلى أميركا للعلاج حين تكون قادرا على السفر.

يبدو لي أنه رأى صورتي على موبايل أخي فضحك وقال هذه صورة سميتي (يوسف)، قلت لا بل هي صورتي صغيرا، هل تتذكرها؟ إنها في بنغازي وأنت وخالي من اصطحباني إلى المصور، ثم دخلنا فيلم رعب تتطاير فيه الرقاب وأدخلتموني بعد نقاش طويل مع (الكمسري) الذي رفض دخولي كون أن الفيلم لفئة عمرية لا تشملني، استمر في الضحك، وعلق: رحم الله خالك، أتذكر تلك الرحلة كانت عام 1973.

كانت هذه آخر كلماتي مع أبي وبعدها بأقل من ثلاثة أيام كان الفراق والفقد، كنت في مكالمة مع صديق، قبيل نهايتها شاهدت رقم أخي الدكتور فرددت عليه بسرعة: أنا في مكالمة سأفرغ منها وأتصل بك، وعاودت لرقمي الذي علقته، بعدها بدقائق عاودت لأخابر أخي، فوجدت رسالة كتب فيها (إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين على كل حال)، فأدركت أنني أصبحت الآن يتيما بلا أب.

وجدت رسالتي تعزية من أقارب، أخبرت آل بيتي، وألهمنا الله وقتها صبرا جميلا، فسكنت لنحو نصف ساعة، متأملا، انتهت بكتابتي للنعي، وخطرت على بالي (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ) كوني شعرت بذلك الموت الذي قهر الله به عباده، ففعلوا كل شيء موبق، ولو أفلحوا في الفرار منه لفعلوا، لكن هيهات.

أحسست حينها أن الله خاطبني (شخصيا) بتلك الآية، أنا قدرت لأجلك كتابا ترجع فيه إليّ، وها أنا ربكم الأعلى قد آب أبوك إلي وليس له إلا عمله، فإن قدم خيرا سيجزى خيراً وإن قدم لنفسه غير ذاك فسيكون الحساب بانتظاره.

وكأن الناس ينتظرون ليتبينوا أني قد علمت نبأ وفاة والدي، وبعد تلكم "النعوة" لم يسكت التليفون لساعات، بل لأيام، مكالمة تدخل على أخرى، وكان هناك من يتردد ويكثر من سؤاله عن حالي، فأجيبه أنت كلمتني لتعزيني في والدي، يقول نعم ولكن خوفي أنك لم تسمع بالنبأ جعلني مترددا.

منذ أن تفتحت عيناي في هذه الدنيا وأنا أرى أبي صواما قواما حريصا على صلاة الجماعة في المسجد ويصلي الفجر بالمسجد ويحسن للناس ويترفق بالضعيف ويقف مع المظلوم ولم يتغيب يوما عن واجب اجتماعي، كان يعطي بغير حساب ولا يأخذ بالمقابل، عزيز النفس. كره القذافي وحكمه لأكثر من ثلاثين عاما، وكان سعيدا بثورة فبراير.

يوم 21 فبراير/ شباط 2011 اجتمع بعض الناس، إذ إن كثرة كانوا خائفين من (إمعمر) الذي ما زال موجودا وله ذراع طويلة، وقبل أن يكون رئيسا لحكماء المرج التي كان تعدادها ربع مليون قبل أن تقسم الى سبع بلديات ونصف، تقدم حين تقهقر الآخرون، وقبلها شجاعة منه وليس تكرما من أحد.

من عادته أن يختم القرآن عشر مرات في رمضان، لكن بعد مرضه في السنوات الأربع الأخيرة تقلصت الختمات إلى خمس، فوالدي دخل الكتاب، كشأن بعض أنداده وقتها، وحفظ نحو عشرين حزبا وحين افتتحت المدارس في منتصف الخمسينيات، كانت تختبر الطلاب كتابة وقراءة فتجاوز سنتين دراسيتين، ووضع في الصف الثالث مباشرة، أخبرني أخي بعد يوم التأبين أنه ختم القرآن مرتين ووصل لسورة لقمان، المرة الثالثة قبل منتصف رمضان. طلب منه آخر ساعات حياته المصحف والمسبحة وطلب أن يغادروا ليتناولوا إفطارهم يوم 22 رمضان، وتوفي بعد الإفطار بساعة ونصف بعد أن ودع جميع أبنائه إلا أنا، فقد استودعته الله قبلها.

يوم الخامس عشرة من رمضان وإلى حينها كان صائما، فرح باجتماع كل بنيه عنده بمناسبة منتصف رمضان، واتصلوا بي، فرح باجتماعهم وصلى العشاء وذهب لينام، وكان أخي وأختي قادمين من بنغازي وقررا عدم العودة تلك الليلة وبقيا إلى أن جاءتهما الوالدة وأخبرتهما بمرض الوالد، دخل عليه أخي وفحصه وقال سنأخذك للمستشفى، أجابه أنت جئت لتحضر وفاتي، مزح معه وقال: عن أي موت تتحدث ها، أنت بصحة جيدة واقف على رجليك، الموضوع بسيط أبسط مما تتخيل، أما الموت فآجال.

لي خبرة مع الجلطات فقد غدرت بصهري وزوجته سابقا إلا أنها لم تستطع خداع أبي فقد عرفها ولم يملك إلا الرضوخ لها، وبات فجر السبت إلى الإثنين في العناية.

يوم 22 رمضان رحل أبي بعد المغرب بساعة، ودفن بعد رحيله بساعتين وصلت عليه أمة اجتمعت ليلة الجمعة قدرت بنحو 400 مصل، متجاوزين حظر كورونا، وودعته كل ليبيا، حتى من أقصى الغرب جاء أصدقائه في نهاية الخمسينيات في مدرسة سوسة الداخلية للتعزية، متجشمين وعثاء وأخطار السفر برا، وكثر من غرب ليبيا قاموا بالتعازي هاتفيا أو بوسائل أخرى.

رحم الله أبي كان رجلاً عظيماً عفيفاً لم نفقده نحن فحسب بل فقدته مدينته والمدن المجاورة والوسط الرياضي والاجتماعي.

دلالات

8E38CF27-B10A-4916-A022-177616221C42
أحمد يوسف علي
مختص في نظم المعلومات ومحاضر جامعي سابق.