إعادة تمثيل الفضيحة

إعادة تمثيل الفضيحة

06 مايو 2020
+ الخط -
إذا لم يستطع القانون إدانة المجرم لأنه صاحب قوة ونفوذ، فهل نقنع من العدالة بإدانة الفن له، ولو حتى في صورة أقرب إلى التجريس؟ سيطرح هذا السؤال نفسه عليك وأنت تشاهد فيلم (Welcome to New York ـ أهلا بكم في نيويورك) للمخرج الأمريكي آبل فيريرا وبطولة النجم الفرنسي ـ وإن أبى للهروب من مصلحة الضرائب ـ جيرار ديبارديو والنجمة الفرنسية جاكلين بيسيه.

يصعب حين تبدأ مشاهدة الفيلم أن تنسى الأخبار التي قرأتها عنه منذ بدأت أولى مراحل إنتاجه، والتي قالت إن الفيلم يحكي عن الفضيحة الشهيرة التي تورط فيها قبل أعوام مدير صندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس كان، حين تم القبض عليه لأنه خلال زيارة لنيويورك اعتدى جنسياً على عاملة تنظيف في فندقه، ولا أن تتجاهل الضجة التي أثيرت في الصحافة الفنية قبل تصوير الفيلم عندما أعلنت النجمة الفرنسية الشهيرة إيزابيل أدجاني عن انسحابها من المشروع، لأنها لم تعجب بالطريقة التي تمت بها كتابة دور زوجة مدير صندوق النقد الدولي ـ الصحفية الشهيرة آن سنكلير ـ قائلة إنها كانت تتمنى الحصول على دور العاملة المعتدى عليها لكن المخرج لم يوافق على ذلك.

وبرغم كل ذلك، ستجد قبل بداية الفيلم مقدمة على الشاشة تنبهك إلى أن "هذا الفيلم مستلهم من قضية شهدتها المحاكم وتداولتها وسائل الإعلام عبر العالم، لكن مع ذلك فإن شخصيات الفيلم وجميع الأحداث التي تعرض حياتها الخاصة تبقى من وحي الخيال"، ولكي يخفف المخرج وقع هذه العبارة على المشاهد أو لكي يحاول تبريرها يضع بعدها عبارة تقول "لأنه لا يستطيع أحد أن يزعم قدرته على تقديم الحقيقة المركبة لحياة أبطال هذه القضية وشهودها، لأن كلا منهم لديه وجهة نظره الخاصة"، وحين يبدأ الفيلم ستكتشف أن مخرجه قام بتغيير أسماء الأبطال هرباً من الملاحقة القانونية، لكنه في مزيج من المراوغة والتحدي قدم داخل الفيلم مشهداً واقعياً يتحدث فيه محامي الضحية للصحفيين، حتى أن فيريرا قام بنقل المشهد من التلفزيون، برغم اختلاف إضاءته وتصويره عن بقية مشاهد الفيلم.


كان يمكن كمشاهد أن تتسامح مع رغبة آبل فيريرا وشريكه في كتابة السيناريو كريست زيوس ـ الذي شاركه في فيلمين سابقين قبل ذلك ـ للهروب من أي تبعات قانونية يمكن أن يلجأ إليها بطل الحادثة الحقيقية دومينيك شتراوس كان الذي استطاع الإفلات من عقوبة السجن بفضل نفوذه وشطارة محاميه الذين نجحوا في إقناع المتهمة بسحب دعواها واللجوء إلى تسوية مدنية للقضية مقابل مبلغ لم يتمكن أحد من معرفته، لأنك تأمل أن يقدم لك الفيلم تفاصيل جديدة عن القضية أكثر من التي عرفتها من خلال متابعتك الإعلامية، خاصة أنها ظلت حديث كل وسائل الإعلام العالمية لفترة، أو حتى أن يقدم لك الفيلم رؤية جديدة تعيد من خلالها فهم ما جرى، لكن ذلك لم يحدث للأسف، فقد اكتفى الفيلم بإعادة تمثيل الفضيحة حرفياً، وقدمها من وجهة نظر دومينيك كان وزوجته وابنته، دون أن نراها حتى من وجهة نظر الضحية المعتدى عليها.

مع ذلك فقد حاول آبل فيريرا أن يجعل الفيلم متسقاً مع رؤيته الفنية التي تجلت في أعمال سابقة، من أبرزها فيلم (King of New York) الذي لعب بطولته ممثل فيريرا المفضل كريستوفر وولكن، وفيلم (Bad Lieutenant) الذي لعب بطولته ممثل مفضل آخر له هو هارفي كيتل، وربما أراد فيريرا أن يربط الفيلم بسابقيه، فاختار للفيلم عنوان (أهلا بكم في نيويورك) كأنه يرغب في جعل تلك الفضيحة التي دارت أحداثها في نيويورك رمزا لسيطرة رأس المال على هذه المدينة التي لم تكن فقط مسقط رأس المخرج، بل كانت مسرحا لأنجح أفلامه، ولذلك لا تستطيع وأنت تشاهد الفيلم، أن تغفل أن جيرار ديبارديو برغم منصبه الدولي الرفيع، يبدو أكثر حقارة وقسوة من بطل (كينج أوف نيويورك) تاجر المخدرات الخارج من السجن لكي يبني مملكة ينتصر فيها على أعدائه ويقوم بتجنيد ضعفاء حيه الفقير ليكونوا رجاله، ولا تستطيع أن تنسى أن بطل فيلم (باد ليتوانت) الشرطي الفاسد الذي يعاني من إدمان المخدرات والقمار يبدو أكثر رغبة في التطهر وتغيير مساره من بطل هذا الفيلم الذي يدمن شراء المتعة والاستقواء الجنسي على الأضعف منه، ولا يبدو راغباً في التخلص من إدمانه، برغم كل ما يسببه من مشاكل وفضائح لزوجته وابنته.

صنع فيريرا فيلمه قبل أن تنطلق حركة "مي تو" التي نجحت في تقديم "تايكون سينمائي" مثل هارفي وينستين إلى العدالة، وأطاحت بالكثير من الأسماء المهمة في عالم الفن والإعلام ـ ظهر الفيلم للنور في أوائل عام 2015 ـ وربما لذلك لم يتفاعل الكثيرون مع الفيلم، حين تم طرحه للمشاهدة المنزلية، لأن بطل فيلمه ظهر بارداً جامد الانفعالات مع الكل حتى في علاقته مع ابنته، بحيث تشعر أنه برغم انغماسه الشره في ملذات الحياة إلا أنه لا يبدو مستمتعاً بها، بقدر ما يبدو مدمناً مُستلَب الإرادة نحوها، ولذلك اختار فيريرا أن يسبق مشهد اجبار البطل للخادمة على الجنس، بمشهد طويل صاخب، يظهر فيه دومينك كان وهو يشارك سريره مع عاهرتين، ومع ذلك فهو ينسى تلك المتعة في الصباح التالي، وما إن يرى فريسة جديدة متاحة حتى يحاول الاستحواذ عليها بالقوة، برغم أن الجميع من حولها يرى أنها ليست جميلة وليست مثيرة، فهذا ليس مهماً بالنسبة له، المهم أن يكون قادرا على امتلاكها حين يرغب فيها، لأنه الأقوى والأكثر نفوذاً والقادر على التحكم في مصائر دول، فضلاً عن مصائر بشر عاديين.

ولأن فيريرا كعادته في أغلب أفلامه لا يحب الاستغراق في التعبير بالحوار ولا مصاحبته بالموسيقى، فقد أثر ذلك أحياناً على روح الفيلم في ظني، خصوصا مع الأداء البارد الذي قدمه جيرار ديبارديو، ووصفه بالبارد هنا ليس ذماً لأدائه، بقدر ماهو تأكيد على التزامه بروح دوره كما أراد صانع الفيلم، أما دور جاكلين بيسيه فقد كان أكثر تركيباً وأهمية، بشكل يطرح تساؤلاً حول ذوق إيزابيل أدجاني في قراءة السيناريوهات، لا أدري كيف أمكن لها أن تغفل عن أهمية تتابع المشاهد الذي نرى فيه زوجة البطل وهي تقوم بمعاينة منزل فخم يفترض أن يظل فيه زوجها رهن الإقامة الجبرية خلال استمرار محاكمته، وعندما تدخل إلى غرفة النوم لتتفقدها ترقد على السرير وتبكي في صمت لعدة ثواني وهي تتذكر معاناتها مع زوجها، ثم تنزل إلى الدور الأسفل من المنزل لتناقش السمسار في تفاصيل الإيجار بمنتهى الهدوء والثبات، ثم نراها في اليوم التالي وهي تمسك بيد زوجها أمام الصحفيين تضامنا معه بعد خروجه من المحكمة، ثم تتحول بعد دخولهما المنزل إلى وحش كاسر وهي تواجهه مواجهة عاصفة خصوصا عندما ينكر تهمته ولكن هذه المرة أمامها وليس أمام المحكمة، فتطلب منه أن يتوقف ولو لمرة عن الكذب، لأنه أيا كان ما حدث في الحقيقة فهو لا يريد أن يدرك أنه كارثة لأن كل شيئ عملت من أجله ضاع، في إشارة إلى ما كان يقال عن طموح الزوجين السياسي لأن يصبح دومينيك كان رئيسا لفرنسا، وهو الحلم الذي أطاحت به تلك الفضيحة ولو إلى حين، ثم نراها بعد إنتهاء هذه المواجهة تنهار كأنثى عندما يحاول احتضانها وتطلب منه ألا يلمسها أبداً، ثم تعود سريعاً لتستعيد دور الشخصية اللا مبالية التي تحدثه عن جمال منزلهما المستأجر وتسأله ما إذا كان معجباً به أم لا.

لبضع دقائق في الفيلم يقدم أبل فيريرا العدالة في نيويورك وقد بدا أنها انتصرت على بطله الذي اختار له اسم "ديفرو"، حين أجبرته الشرطة على أن يخضع للإعتقال، دون أن تنفعه صيحته في وجوه رجال الشرطة: "ألا تعرفون من أنا؟"، لنراه وهو يتم تفتيشه ذاتياً بغلظة، ويتم إجباره على خلع ملابسه كاملة كأي مجرم عادي، وهو مشهد حرص جيرار ديبارديو على أن يؤديه بنفس البرود، ليبدو كأن البطل غير قابل للتأثر حتى أثناء إنزاله من عليائه بقوة القانون، لتظهر لنا المشاهد التالية من الفيلم أن انتصار العدالة على المجرم صاحب النفوذ كان وقتياً، لأنه سيعود ثانية في منزله المؤقت للتحرش بعاملة نظافة ويغويها لتمارس معه الجنس، دون أن تشتكيه هذه المرة كما فعلت سابقتها.

اختار أبل فيريرا إنهاء فيلمه بمشهد يقدم مواجهة هادئة هذه المرة بين البطل وزوجته وهي تقول له إنها أنقذته من السجن بفضل المال والنفوذ، وإن عليه أن لا يحاول إقناعها أبدا بأنه برئ أو ضحية، وبعد أن تنهي مواجهتها معه تخرج من المنزل لتتركه جالساً في المطبخ، لنفاجأ به وهو يبدأ على الفور التغزل بخادمة جديدة، ليس فقط إشارة إلى عدم قابليته للتغيير، ولكن أيضاً إلى بقاء واستمرار قانون الغاب البشري الذي يستغل فيه القوي الضعيف إلى الأبد، وهو أمر أصبحت تعلم بالممارسة والتجربة أنه ليس سائداً في نيويورك وحدها، وهو ما يجعلك تتساءل إذا كان من الأفضل أن يكون عنوان الفيلم: (أهلا بكم في الحياة الدنيا).
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.