كل الصيد في جوف الفرا

كل الصيد في جوف الفرا

04 مايو 2020
+ الخط -
مثلٌ من أمثال العرب، ضمَّنه النبي الكريم بعض كلامه، وله استعمال طيب في الأمور الحياتية، فضلًا عن ملمح مؤثر في عالم التواصل والإقناع وكسب القلوب والتودد إلى النَّاس. وقبل أن نتوسع في ذلك كله، نتعرف إلى قصة ظهور هذا القول البليغ (مورد المثل)، والمناسبة التي يجدر الاستشهاد به فيها (مضرب المثل).

أما عن مورده؛ فقد ذكر الميداني في "مجمع الأمثال" أن ثلاثة أشخاص خرجوا للصيد أو القنص، فصاد أحدهم أرنبًا، والآخر ظبيًا، والثالث حمارًا وحشيًا؛ فاستبشر صاحب الأرنب وصاحب الظبي بما نالا وتفاخرا وتطاولا على صاحبهما؛ فقال الثالث "كُلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفِرَا" فأفحمهما.

وأما عن مضربه، فإنه يُضرَب لكل من يُفضَّل على أقرانه، ويُقصد به أن شخصًا واحدًا قد يَفضُل جماعةً ويُغني عنهم، ويستعمِل في كل حاوٍ لغيره وجامعٍ له، وللرجل الجليل القدر ينوب وحده مناب جماعةٍ، وينزل منزلة عددٍ كثيرٍ في فضله وعلمه.


قال ابن السكيت: الفَرَاء، الحمار الوحشي وجمعه الفِراء (مثل جبل وجِبال)، ويُجمع كذلك على أفراء، وقالوا يُمد ويُقصر ويُهمز. قال أبو علي الفارسي الفَرَا كالزنا يمد (الزناء)، ويُقصر (ولا تقربوا الزنى)، وكذلك الفداء والبكاء، والقصر في الفرا أشهر، وقال أبو بكر بن دريد: "والفرا أعظم ما يُصاد؛ فكلُّ صيدٍ دونه".

وفي "تاج اللغة وصحاح العربية" للجوهري و"مختار الصّحاح" للرازي: الفَرَأُ بوزن الكَلَأِ وقد أبدلوا الهمزة ألفًا فقالوا "أَنْكَحْنَا الفَرَا فسنرى"، وتقول العرب: "أنكح من الفرأ". في لفظة الفرا خطَّأ الصَّفَدِيُّ الجوهري، إذ لم ينتبه الصَّفَدِيّ إلى أن الأمثال موضوعة على الوقف، ولا تخضع لقواعد اللغة؛ فتروى كما تُسمع ولذلك لا يُحتَج بها ولا يُقاس عليها، ويبْطُل ما احتج به الصفدي، إذ إنه نقل أصل هذا الاعتراض عن ابن برّي دون أن يدرك اختلاف المراد؛ فاعتراضُ ابن برّي لم يكن على أصل الكلمة وموضعها في (الصِّحاح)، بل كان على رواية المثل وأنّه جاء مسهَّلًا، ولم يُروَ مهموزًا كما ذكر الجوهريّ.

نوع (ال) التعريف في المثل
جاءت لفظة الفرا مُعرَّفة بـ(ال)، والتعريف هنا عهدية لا جنسية، إذ إنها ليست لاستغراق الصفات، وإنما للدلالة على الحمار الوحشي الذي صاده الرجل في هذا الموقف تحديدًا، ومن ثم فنوع العهدية حضوري. يأتي الاستغراق في هذا المثل من لفظة كل، وقال ابن عطية "كلّ لفظة تصِحُّ للإحاطة، وقد تُسْتعمَل غيرَ محيطةٍ على جهةِ التشبيه بالإحاطة، والقرينةُ تُبَيِّنُ ذلك، وهذا يقتضي أنها ليست نصّا في العموم"، وفي قولهم (كلّ الصَّيد في جوف الفَرَا)، جاءت كل على جهة التشبيه بالإحاطة، أي جُعل حمار الوحش لجلالته (كأنه) بمنْزلة جميع الصَّيد.
جوف الفرا في الهدي النبوي

وبهذا المثل تألَّف النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان، وذلك أنه لما استأذن للدخول على النبي الكريم حُجِبَ قليلًا ثم أُذِنَ له، فلما دخل قال: ما كدت تأذنُ لي حتى تأذن لحجارة الجلهمتين (يقول أبو عبيد: الصواب الجلهتين، وهما جانبا الوادي، والجهلة: فم الوادي وقيل باطنه وقيل جانبه)؛ فقال المصطفى: "يا أبا سفيان! أنت كما قيلَ (كُلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفِرَا)"، وفي معناه قال أبو العباس المبرِّد: يريد إذا حُجِبْتَ قنع كلُّ محجوب ورضي.

واختلفوا في أبي سفيان هذا؛ فقال فريق إنه أبو سفيان بن حرب، ومن هؤلاء أبو عبيد في أمثاله، والجاحظ في البيان والتبيين، وقال آخرون إنه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ومن بينهم ابن دريد في المجتنى، لكن ابن عبد البر في "الاستيعاب" والسخاوي يرجّحان أنه أبو سفيان بن حرب، وقال السخاوي: ويُستأنس له بسبب قوله صلى الله عليه وسلم له (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن).

وفي النبي الكريم قيل: (ولهُ كمالُ الدينِ أعلى همَّةٍ/ يعلُو ويسمُو أن يُقاسَ بثاني/ لمَّا أضاءَ على البريَّة زانَها/ وعلا بها فإذا هو الثَّقَلانِ/ فوجدتُ كلَّ الصيْدِ في جَوْف الفِرا/ ولقيتُ كلَّ الناسِ في إنسانِ).

جوف الفرا في وادي عبقر
في بغية الوعاة للسيوطي: (يقولون كافات الشتاء كثيرة/ وما هي إلا واحد غير مفترى/ إذا صح كاف الكيس فالكل حاصل/ لديك وكل الصيد في جوف الفرا)، ولإبراهيم الغَزيّ (لَا تسأَلَنَّ سوَى السَّعَادة لِلعُلَى/ سَبَبًا فَكلُّ الصَّيْد في جَوْفِ الفَرَا)، وقال منذر بن يحيى التجيبي (وليعلم الأملاك أنّي بعدهم/ ألفيت كلّ الصّيد في جوف الفرا).

وفي مدح فلان، يقال (لا تسمعن حديث ملك غيره/ يروى فكل الصيد في جوف الفرا)، ولآخر (إني اكتفيت من الورى بلقائه/ إذ كان كلّ الصّيد في جوف الفرا)، وقال بعضهم في محبوبته (لا تذكروا الغزلان عند لِحاظها/ أبدًا وكل الصيد فى جوف الفرا/ لما درت أني الكليم من الهوى/ جعلت جوابي في المحبة لن ترى).

أشباه جوف الفرا في الشِّعر
والمراد من المثل جليل، ولابن خفاجة الأندلسي (جمع المحاسن كلها فأتى بها/ مصداق: كلُّ الصيدِ في جوفِ الفرا)، وقد أكثرت الشعراء في المعنى ذاته، كقول أبو نواس: (وليس على الله بمستنكر/ أن يجمع العالم في واحد)، وقال البحتري: (ولم أر أمثال الرجال تفاوتوا/ إلى المجد حتى عُدَّ ألفٌ بواحد)؛ فأخذه أبو الطيب المتنبي فقال (مضى وبنوه وانفردت بفضلهم/ وألف إذا ما جمعت واحد فرد)، وله كذلك (فإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم/ فإن المسك بعضُ دمِ الغزال).

وصدق اليازجي (وإذا تفقدت المحامد كلها/ ألفيت كل الصيد في جوف الفرا/ كل يبالغ في المديح بشعره/ ويظل مادحه الأمين مقصرا/ ومتى طلبنا ريبة في نفسه/ كانت لنا عنقاء مغرب أيسرا/ ذاك الذي لم يتخذ لكنوزه/ عرضاً من الدنيا فصادف جوهرا/ حق على الخطباء ذكر صفاته/ مثلاً شروداً حين تعلو المنبرا).

دلالات