قصتي مع علي الطنطاوي

قصتي مع علي الطنطاوي

31 مايو 2020
+ الخط -
في أول يوم لي من العام الدراسي وكنت وقتها في الصف السابع (الأول الإعدادي) دخل علينا الموجّه يريد عدداً من الطلاب ليساعدوا أمين المكتبة في توضيب الكتب المدرسية وفرزها تمهيداً لتوزيعها على طلاب المدرسة، وكنا نتلهف ليقع الاختيار علينا، ومن يوافق يوم سعده ويختاره الموجه، يخرج من مقعده وهو يمشي الخيلاء وكأنه ذاهب إلى حفل تكريمه، رغم أن الواحد منّا كان يحمل من الكتب أكثر مما يحمل العتّال في "سوق الهال" من الخضار والفواكه، إلا أن ذلك كان أحب إلينا من المكوث في الصف والاستماع إلى الدرس الأول للمعلمين؛ الذي كان عبارة عن (تعارف) كما كانوا يسمونه. ولا عجب في ذلك، فهذه طبيعة النفس البشرية تنفر من النظام وتألف الفوضى.

اختار الموجّه عدداً من الطلاب، ومن حسن حظي كنت واحداً منهم، ودلف بنا إلى المكتبة، حيث بقينا هناك حتى شارف الدوام على النهاية، وكانت العادة التي درج عليها أمناء المكتبات حينها أن يُعطى كلُّ عتّال من الطلاب نسخةً جديدة من الكتب نظير الجهد الذي بذله، وكانت هذه الميزة لا تعجبنا -نحن الطلابَ- فقد كنا نفضّل الكتب القديمة، لأن أسئلة الدروس تكون محلولة من طلاب السنة الماضية.

ويبدو أن أمين المكتبة علم برغبتنا فحققها ولم يسر على سنّة مَن قبله، فبعد أن أنهينا العمل قال: "كل واحد منكن ياخد كتاب من المكتبة للمطالعة". ولما رأى علينا علامات الاستغراب، قال "شبكن واقفين متل الجدبان، شو مالكن سمعانين بالمطالعة؟!"، فقام وأعطى كلَّ واحد منا كتاباً كيفما اتفق، ولأنه كان حكيماً وذا حنكة – كان ضابطاً في الجيش، ولكن القيادة الحكيمة أصدرت بحقه عقوبة تأديبية وارتأت أن تعيّنه مدرباً لمادة التربية العسكرية في المدارس ثم جعلته أميناً للمكتبة- فقد أعطى أحد الطلاب كتاب (تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي) للدكتور شوقي ضيف!.

وهذا ليس غريباً على مَن هم في سلكه، فقد كان قائده في الجيش ووزير الدفاع حينها نابغة زمانه وذا علمٍ موسوعي، فلم يدع مجالاً إلا وألّف فيه الكتب، في الأدب والدين والفلسفة والسياسة والطب وفنون الطبخ والحياكة و.....، ولغزارة إنتاجه عجزت دور النشر عن مواكبتها فأنشأ داراً للنشر سمّاها باسمه، ومَن يدري، ربما لو كان حياً إلى الآن لوجد لنا علاجاً للكورونا!.

المهم، وزّع أمين المكتبة على كلٍّ منا كتاباً، وكان من نصيبي -ولحسن حظي- كتاب (حكايات من التاريخ) للأديب الكبير الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.

أخذت الكتاب وعدت به إلى البيت، وللأمانة فقد كان أمين المكتبة صادقاً، إذ لم نكن نحن أبناءَ الأحياء الشعبية نعرف المطالعة، وإنما كنا نسمع عنها في التلفاز فقط، حين كانت المذيعة تسأل أحد الطلاب ما هي هواياتك، فيجيب بشكل عفوي: المطالعة والسباحة وجمع الطوابع، والغريب أن هذه الهوايات كانت هي ذاتها لكل من يظهر في التلفاز!.

فتحتُ الكتاب بعد أن تناولت غدائي، وبدأت بممارسة المطالعة للمرة الأولى، ومع أن اليافع من الصعب أن يشده كتاب أياً كان موضوعه أو أسلوب مؤلفه، إلا أن الطنطاوي جعلني أنصاع إليه طائعاً، فلم يكن قد طوّع اللغة فحسب حتى جاءت منقادة بين يديه، يغرف منها أعذب الأساليب وأرقّها، ليكسوها مواضيعه السامية الهادفة، بل طوع قرّاءه أيضاً، فقلّما تجد قارئاً اطلع على إنتاج الطنطاوي فلم يأسره ويعجب به.

بقيت منكبّاً على الكتاب بشكل متواصل، حتى أنني لم أخرج يومها للعب مع أصدقائي كما هي العادة، وبقيت على هذا الحال يومين متتالين حتى أنهيت الكتاب، فشعرت حينها كمن كان يعيش حلماً جميلاً ثم استيقظ.

إن الطنطاوي بحقٍّ شخصية فريدة قلّما يجود الزمان بمثلها- ومَن مثله لا يحتاج إلى شهادة مَن هم مثلي- فعلى الرغم من موسوعيته وتنوع كتاباته إلا أنك تلمح فيها جميعاً خيطاً رفيعاً يشدها بعضها إلى بعض، فتبدو وكأنها جواهر في عقد. فالطنطاوي هو ذاته في كتبه وفي برامجه الإذاعية وفي حلقاته التلفزيونية، يأسرك ببساطة أسلوبه، ويغريك ببديع صنعه الأدبي، حتى أنه قد يتناول فكرة بسيطة قد تبدو للبعض (تافهة) ولكنه حين يطوّعها بين يديه ويمرر عليها قلمه تغدو فريدة ساحرة.

والشيء اللافت للنظر أن كل من قرأ مؤلفات الطنطاوي يظن أنها تخاطبه هو وحده، فالأديب يلحظ فيه الأسلوب الأدبي الرفيع، واليافع يظن أنه يرسم ما في مخيلته ويترجم احتياجاته، وحتى العامي يشعر أن تلك الكلمات تمس شيئاً ما في داخله وتحاكيه، مع أن الكتاب هو ذاته!.

إن الوضوح سمة بارزة في مؤلفات الشيخ الطنطاوي، فمن النادر أن تحتاج للرجوع إلى المعجم لتبحث عن معنى كلمة عصية على الفهم، في حين تجد من الكتّاب من يتعمّد إيراد الغريب من الكلام والعسير من المعاني، يستعرض عضلاته ويظن أنه بذلك سيغدو أديباً لامعاً.

وفي صباح اليوم التالي أخذت الكتاب لأعيده إلى أمين المكتبة، وهممت أن أطلب كتاباً آخر للطنطاوي، وحينما دخلت عليه سألته: "في المكتبة كتاب تاني غير هاد للطنطاوي؟". فنظر إليّ بغضب وصاح: "حط الكتاب عالطاولة وانقلع لبرَّا ولاك، بدي أشتغل عندك وعند الطنطاوي".

فخرجت أسيفاً أن وصل إنتاج الشيخ الطنطاوي إلى يد هؤلاء!.

E369BD0D-C383-46BD-8721-E6766ECDA42B
محمود كريم

صحافي سوري خريج جامعة حلب قسم اللغة العربية، معد برامج وتقارير إخبارية لمؤسسات إعلامية سورية عدة.