نيتشه في بيروت!

نيتشه في بيروت!

24 مايو 2020
+ الخط -
يعتبر كتاب "النبي" من أهم ما خطه الأديب جبران خليل جبران، وذلك حسب قوله هو، فيرى جبران أن كتابه هذا يحمل في طياته فلسفته وروحه وقطعاً من ذاكرته. وهو أفضل تمثل لشخصه. كما يعتقد الكثيرون أن الكتاب لا ككتب القوم فهو يجمع بين الفلسفة والشعر، وهما مما قل في عالم الكتابة.

ولد جبران في السادس من يناير/كانون الثاني 1883 في بلدة بشري، ولم يدخل المدرسة لفقر والده ولامبالته، ولكن كاهن البلدة لما رأى منه ما يسره قرر تعليمه وهكذا كان، وحين بلغ الثانية عشرة وبسبب تعرض والده للطرد من عمله (جابٍ للضرائب في العهد العثماني) والزج به في السجن لسوء إدارته وتبديده لأموال الدولة، استقرت أسرته مع أقارب لها، ولكن تحت ضغط الفقر والحاجة هاجرت الأم مع أبنائها "جبران، سلطانة، مريانا، وبطرس (ابنها من زوجها السابق)" إلى بوسطن الأميركية. وهناك أدخل جبران خليل المدرسة لأول مرة.

وسرعان ما نبغ نجمه، وخاصة في الرسم، وكانت أمه من شجعه على المضي قدما في هوايته هاته، بأن قدمت له رسومات للفنان الإيطالي دافينشي؛ كما أعجب برسماته أساتذته في المدرسة؛ وبالإضافة إلى الرسم، أحب جبران الكتابة رغم عدم وضوح إنكليزيته وكذا عربيته، وظل الأديب على هذا الحال إلى أن قررت العائلة إعادته إلى الوطن سنة 1898، بعد أن لاحظوا تأثره بالنمط الغربي، ولكنه لم يستقر هناك ليعود مرة أخرى إلى بوسطن، وما هي إلى سنوات قلة حتى عاد من جديد إلى لبنان سنة 1902، وكأن الحظ يعانده، لم يهنأ برجعته بعد أن اضطرته الظروف إلى الرجوع أدراجه بعد موت أخته "سلطانة" 1903 بداء السل، الذي لن يترك له من أهله سوى أخته "مريانا".

كتب جبران ورسم وأسس الجمعيات في باريس ونيويورك، كتب عن الموسيقى والاقطاع والتعصب الديني، وكل ما يخطر على بال مغترب عربي يعيش أزمة فراق الوطن والأحبة، ولكن ما كتب في كفة وكتابه "النبي" في كفة ثانية، نشره في سنة 1923 باللغة الإنكليزية، وترجم فيما بعد لأكثر من خمسين لغة، ويعد من أهم إبداعات الأدباء العرب، وخير ما ترك وراءه، توفي جبران في 10 إبريل/نيسان 1931 -لم يتجاوز الثامنة والأربعين- بداء السل.


بالصدفة عثرت على كتاب النبي، وأنا الذي كنت أنوي قراءته منذ عهد قديم وحالت بيني وبينه كتب أخرى، لكنه بقي في ذهني، ولهذا قررت أن أقرأه.

النبي، هذا عنوان أول مقاطع أو فصول (اثني عشر) أو سَمّه ما شِئت من الأسماء، والوداع هو آخرها، وبين هذا وذاك لا يتجاوز الكتاب تسعين صفحة بالتمام والكمال (النسخة التي بين يدي).

قبل الشروع في قراءته أحببت أن أطلع على الفهرس، وهذه عادتي في قراءة الكتب، أن أعود للفهرس لأرى كيف قسم الكاتب كتابه وأي الفصول أطول من الآخر وهكذا، ولا أعتقد أن الأمر ذا أهمية أو ذا فائدة عظيمة، ولا أتذكر أني قرأتها في كتاب تعليم القراءة، حتى لا يتخذها -ربما- القارئ سنة مؤكدة، بل هي عادة لم أدر كيف التصقت بي.

يبتدئ الأديب كتابه الشهير "النبي"، والنبي ما هو إلا شخص يسمى "مصطفى"، وعلى الأرجح أنه عارف بالله أو أحد أوليائه الصالحين، وهو حين يهم بالرحيل من إحدى المدن، يوقفه سكان المدينة الذين اجتمعوا عن بكرة أبيهم لتوديعه أو لمنعه من السفر إن أمكن، وهكذا يبني الأديب قصته ليصل إلى المحاورات التي يجريها "مصطفى" العارف بالله مع السكان.

يدخل مصطفى في حوار مع السكان، يكون فيه ناصحاً لهم هادياً أكثر منه مودعاً، فالناس حين أيقنت رحيله أرادت أن تحفظ منه بعض الوصايا تتوارثها جيلا بعد جيل، على غرار الوصايا العشر، وهكذا يقدم العارف بالله نصائحه للكل من دون استثناء، هم يقولون وأخبرنا عن كذا وهو يعطي بدل الجواب الحكم. والتي هي عبارة عن فلسفة خاصة بالأديب جبران خليل جبران.

في اللحظة التي قرأت في أول سطر من الكتاب، رأيت أمامي شبح "نيتشه" بشاربه الكثيف، وعينيه الغائرتين، فأنا أعرف جيداً أسلوب نيتشه -فقد قرأت معظم كتبه- وخاصة الذي خط به كتابه الأفضل "هكذا تكلم زرادشت"؛ الأسلوب شعري فلسفي، الذي بسببه راح البعض ينزع عنه صفة الفيلسوف، ويقزم حجمه إلى حد اعتباره من البعض كاتباً هاوياً، ووصفه آخرون بـ"الفيلسوف المراهق".

أسلوب نيتشه حاضر بقوة في كتاب النبي، بل لا أبالغ إن قلت إن اللبناني ما أمكنه الخروج من تحت عباءة الكتاب -ليس بالمعنى القدحي-، لدرجة أن التل والنسر والسفينة والكثير من الصور النيتشاوية حاضرة في كتاب النبي، يصعب على القارئ التغافل عنها.

استطاع الألماني بأسلوبه الشعري أن يسطر أحد أهم ملاحم التاريخ المعاصر، ويضع لنفسه مكانة ضمن فلاسفة ما بعد عهده (لم ينل ما يستحق في حياته وكان يرى أن الناس ليست مستعدة لفهمه وأنه فيلسوف سبق زمانه)، ورغم ما قلناه سابقاً عن انتقاص البعض من شخصه فاتهموه بالجنون والمراهقة وخاصة ما اشتهر به مع الروسية "سالومي" التي أحبها حد الهوس وكرهها حد الجنون، ولقد تأثرت كتابات نيتشه بحياته بل جعلت لكتاباته نبضاً يسمعه كل مهتم شغوف به، وربما هذه العلاقة مع النساء إحدى أهم نقاط التقاء الرجلين، فكما تعلق نيتشه بسالومي أحب جبران "ماري هاسكل" ومي وغيرهما، وكما أحب نيتشه الموسيقى والتي رأى فيها تعويضاً للميتافيزقا؛ أحب جبران الرسم وأقام معرضه في المهجر سنة 1904، والموسيقى وكتب كتاباً فيها "الموسيقى" سنة 1905.

ولا عجب إذاً في أن جبران خليل جبران، رغم قامته الأدبية قد نسخ أسلوب الألماني، وكتب على منوال زارا قصة مصطفى العارف بالله، ولا مندوحة في الكتابة بأسلوب الآخرين. قال جبران ذات مرة: "نيتشه أخذ أقواله من روحي. جنى فاكهته من نفس الشجرة التي جذبتني".

وما حدث مع الأديب اللبناني، أكاد أجزم أنه سيحدث مع كل من قرأ "هكذا تكلم زرادشت"، فقد وقع معي نفس الشيء، ودفعني إعجابي الشديد بأسلوبه والتعلق بأفكاره (ليست كل أفكاره وأنت تميز بين الغث من السمين) إلى النسج على منواله، فكتبت ذات مرة -قبل سنتين لكني عدلتها فأضفت وحذفت- كلاماً قريباً من أسلوب نيتشه، أقول فيه:

"وحين وصل زارا إلى الغابة حدجت عيناه الروح الشريرة وكان قد رآها قبل ذلك أسفل الوادي، فصاح زارا "ها أنتِ ذا أيتها الشريرة إني ألمحك مجددا، وإني أعلم أنك تراقبنني بصمت، إن كلامي يؤلمك، والكتابات التي سطرتها تعذبك، والحِكم التي أنطق بها حبل يشد رقبتك، ونجاحي رسوبك، مشييِ قيود تكبلك، وأحلامي كوابيسك".

أنا أسمو وأنت تنحطين، أنا محبوب وأنت مكروهة وهذا يميتك ألف مرة في اليوم الواحد، أنظري إلى نفسك إنك شاحبة اللون، عيناكِ غارقتان في الحقد والكراهية، صوتكِ ضعيف وقلبك أسود، أنتِ جثة حائرة ملقاة على رصيف الحياة. بينك وبين الموت وهلة، إنك تحبين أن تحيي لكنك تكرهين أن يحيا الآخرون، إني أشفق عليكِ أيتها الروح الشريرة، إنكِ خائفة مني، بينما أنا لا أخافك، إني أراك في كل مكان في الشارع وفي المدارس والمكتبات، وحتى في أطهر الأماكن في بيت الله تدنسين قدسيته، لقد نلتِ منهم جميعاً، لكنك لن تفعلين معي، وها أنذا أنشر خبرك في القرى والمدن وعلى شطآن البحار.

وحين انتهى زارا من موعظته، اختفت الروح الشريرة مجدداً، وقال زارا إن الشقاء والعذاب حليف كل حاقد حسود، وهمهم بكلمات لم يسمع منها سوى: "إن الأرواح الشريرة تطغى على الحقد"، وظل يرددها الى أن وصل إلى المدينة وهناك رأى حشد من الناس مجتمعين على فتى صغير، فاقترب زارا من الحشد..".

هل الكتابة بأسلوب شخص ما سرقة؟ لا أعتقد ذلك؛ وإلا أصبح كل الكتاب الحاليين والقدامى لصوصاً!. ولا أعرف كيف يرى البعض أنها سرقة علمية؛ فبالنسبة لي؛ السرقة العلمية لا تعني -حسب علمي- الكتابة بأسلوب مشابه لأحد الكتاب، إنما تعني، نقل المعلومات أو الأفكار وخاصة الجديدة (يعني ليست مما هو موجود في أكثر من مرجع)، أو أخذ مقتطف من كتاب من دون الإحالة إليه أو الإشارة إليه؛ ومما هو معروف، وحتى ها هنا لا يمكننا الجزم بالسرقة، فالمثقف قد يعمد للكتابة ووضع أفكار البعض من دون أن يسميهم لا يعاب عليه؛ وراجع مقدمة محمد عابد الجابري في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية".

دلالات