رمضان ولّى!

رمضان ولّى!

24 مايو 2020
+ الخط -
تخيل معي ما الذي يمكن أن يحدث لو ظهر على شاشات التلفزيون كاتب أو مذيع في أول أيام عيد الفطر، وقال لجموع مشاهديه وهو يضحك: كل سنة وإنتو طيبين، هاهو رمضان قد ذهب بعد طول انتظار، فدعونا نخرج من سجن الطاعات الذي كنا محبوسين فيه لنعيش حياتنا قليلاً. أظنك ستتفق معي أنه غالباً لن ينتهي به اليوم إلا وقناته التلفزيونية أو الصحيفة التي يعمل فيها محاصرة ـ واقعياً أو الكترونياً ـ بعشرات إن لم يكن مئات البشر الذين يطلبون رقبته ويهدرون دمه، وربما وجدوه بعدها بأيام مطعوناً أو مضروباً أو مبصوقاً عليه من شخص غيور على الدين، وفي أحسن الأحوال سيطارده بدل المحامي عشرون، مطالبين بإيقاع أقصى العقوبة عليه لقيامه بإزدراء الدين الإسلامي.

منذ أقل من مائة عام خرج أمير الشعراء أحمد شوقي على الملأ بقصيدة أغلب الظن أنها نشرت في صدر الصفحة الأولى من أكثر الصحف انتشاراً كعادة قصائد شوقي التي كانت تباع الصحف بها، كان مطلع القصيدة يقول "بالمفتشر":

رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي.. مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ

ما كانَ أَكثَرَهُ عَلى أُلّافِها.. وَأَقَلَّهُ في طاعَةِ الخَلّاقِ

اللَهُ غَفّارُ الذُنوبِ جَميعِها.. إِن كانَ ثَمَّ مِنَ الذُنوبِ بَواقي

بِالأَمسِ قَد كُنّا سَجينَي طاعَةٍ.. وَاليَومَ مَنَّ العيدُ بِالإِطلاقِ

لم أقرأ في المراجع التي تحت يدي عن حياة شوقي أنه تعرض وقتها بسبب تلك القصيدة لمحاولة اغتيال أو لدعوى حسبة، ولم يوضع تحت الحراسة المشددة بسببها، ليس لأن مصر لم يكن بها أناس غيورون على الدين وقتها، بل لأن الناس الغيورين على الدين كانوا يجيدون قراءة الشعر ولا يحكمون على القصائد من مطالعها بل يكملون قراءتها حتى النهاية. نعم، تعرض شوقي للانتقاد بسبب مطلع القصيدة الذي رآه البعض صادماً وجارحاً، لكنه لم يتعرض للتكفير ولم يتم رميه بالزندقة وازدراء الدين، وربما كانت المفارقة أنه تعرض بسبب هذه القصيدة لاتهامات أشد قوة وقسوة في السنوات الأخيرة أكثر مما تعرض له في أيامه من قبل معاصريه، مع أن مهاجميه لو أكملوا قراءة القصيدة لوجدوها قصيدة وطنية بل وأخلاقية أيضاً، وما كان مطلعها الصادم إلا لعبة فنية من شاعر أراد أن يجذب قراءه إلى قصيدته وهو يحدثهم عن الكأس التي اشتاق إلى شربها، قبل أن يتضح هدفه الحقيقي من القصيدة عندما يقول لساقيه: 

لا تَسقِني إِلّا دِهاقاً إِنَّني.. أُسقى بِكَأسٍ في الهُمومِ دِهاقِ

فَلَعَلَّ سُلطانَ المُدامَةِ مُخرِجي.. مِن عالَمٍ لَم يَحوِ غَيرَ نِفاقِ

وَطَني أَسِفتُ عَلَيكَ في عيدِ المَلا.. وَبَكَيتُ مِن وَجدٍ وَمِن إِشفاقِ

لا عيدَ لي حَتّى أَراكَ بِأُمَّةٍ.. شَمّاءَ راوِيَةٍ مِنَ الأَخلاقِ

ذَهَبَ الكِرامُ الجامِعونَ لِأَمرِهِم.. وَبَقيتُ في خَلَفٍ بِغَيرِ خَلاقِ

أَيَظَلُّ بَعضُهُمُ لِبَعضٍ خاذِلاً.. وَيُقالُ شَعبٌ في الحَضارَةِ راقي

وَإِذا أَرادَ اللَهُ إِشقاءَ القُرى.. جَعَلَ الهُداةَ بِها دُعاةَ شِقاقِ

إِنّي أُجِلُّ عَنِ القِتالِ سَرائِري.. إِلّا قِتالَ البُؤسِ وَالإِملاقِ

وَأَرى سُمومَ العالَمينَ كَثيرَةً.. وَأَرى التَعاوُنَ أَنجَعَ التِرياقِ

ولو كان شوقي رحمه الله قد حاول إلقاء قصيدته هذه في إحدى برامج "التوك شو" صبيحة يوم العيد، لما كان الضابط المسؤول عن البث سيتركه يكملها، لأنها تبدو مكتوبة خصيصاً لنا ولأيامنا التي يحلو لنا أن نقاتل بعضنا فيها، بدلاً من أن نتفرغ لقتال البؤس والفقر، لم يكن أحد سيلتفت إلى ما قاله عن دعاة الشقاق الذين تشقى بهم القرى، ولا عن بكاء شوقي في يوم العيد على وطن يحتاج إلى ترياق التعاون لكي يتعافى مما هو فيه.

لحسن الحظ لم يهدر أحد دم شوقي يومها، ليعيش ويكتب بردته الشهيرة في مديح النبي عليه الصلاة والسلام والدفاع عن الإسلام في وجه دعاوى بعض المستشرقين: "ريم على القاع بين البان والعلم.. أحل سفك دمي في الأشهر الحرم"، بالإضافة إلى قصيدتين رائعتين في مديح النبي أبدعت في غنائهما كوكب الشرق أم كلثوم هما "ولد الهدى فالكائنات ضياء.. وفم الزمان تبسم وثناء"، وقصيدة "سلوا قلبي غداة سلا وثابا.. لعل على الجمال له عتابا".

للتسامح مع جموح الأدب في ثقافتنا العربية مسيرة طويلة بدأت قبل شوقي بكثير. كان لديّ تمرين مشهور أمارسه مع بعض أصدقائي المتشددين، فأحكي لأحدهم حكاية ماجنة بطلها مؤذن أو إمام أو شيخ، وأقول له إنني أفكر في كتابتها، فيقول لي إنني سألقى الويل والثبور وعظائم الأمور إذا نشرتها، ويشعر بالصدمة عندما أخرج له كتاباً تراثياً للإمام السيوطي مفسر القرآن أو الحافظ الثعالبي وأقرأ له الحكاية من داخله، ثم أعدد له كتب التراث التي كتبها الحفاظ والمفسرون بهدف الترويح عن النفوس وكانت مليئة بالحكايات الجريئة والصادمة، ولم يعتبر أحد منهم أنه يفعل شيئاً منكراً بكتابته لها وروايتها للناس، فقد كانوا يستمدون ذلك التسامح مع المزاح والهزل من محمد عليه الصلاة والسلام.

يروي ابن عبد ربه الأندلسي في "العقد الفريد" أنّ الرسول أوصى بأن يصلي بنفسه على فتاة سمراء كانت تتردد على السيدة عائشة وتضحكها، وقال وهو يصلي عليها: اللهم إنها حريصة على أن تضحكني فأضحكها فرحاً. وحتى عندما كانت السخرية تصبح متجاوزة وتزيد عن حدها، كان النبي يتعامل معها بفهم وتسامح، هذه المرة سأنقل عن البخاري الذي روى في صحيحه في كتاب المغازي أنّ السيدة أم سلمة رضي الله عنها قالت: "دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث، فسمعه يقول لعبد الله بن أمية: ياعبد الله أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف، فعليك بإبنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان". ينقل المحقق عبد السلام هارون رحمه الله في "كناشة النوادر" عن ابن حجر العسقلاني وغيره تفسير ذلك القول بأنه سخرية من سمنة السيدة المفرطة بحيث تبدو لعظم ثدييها ويديها كأنها تمشي مكبة على وجهها، ومع ذلك لم يطلب الرسول عقابه ولم ينفعل عليه بل اكتفى طبقاً لنص الحديث بأن يقول "لا يدخلن هؤلاء عليكم".

ليست هذه دعوة للسخرية الجارحة عمّال على بطّال من البشر ومعتقداتهم ومقدساتهم، بل هي دعوة للتسامح مع الشطط الإنساني، دعوة لئلا يُنَصِّب البعض أنفسهم حكّاماً وجلادين على من يخرج على الخطوط التي يحبون أن يسيروا عليها، دعوة لأن نكف عن الحروب الهوجاء التي يهوى البعض شنها ضد عمل فني أو أدبي لن يضره لو اجتنبه وتركه لمن يريده وشغل نفسه بما ينفع، مكتفياً بإنكار مايراه منكراً دون تكفير أو تجريح.

كل سنة وإنتو طيبين.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.