في مديح "الغْريبية"

في مديح "الغْريبية"

22 مايو 2020
+ الخط -

لعل الكثير من رفاق الزمن الماضي يتذكرون أياماً كانت فيها السكاكر والحلويات عزيزة ونادرة. نظل نرقب الأعياد الدينية والمناسبات الاجتماعية لنحظى بقليل منها؛ نتسابق إليها، نلوكها بكل لذة، محاولين إطالة مقامها داخل الأفواه قبل أن يتلاشى مفعولها السحري وتذهب معها لحظات سعادة عابرة.

والحقيقة أن خياراتنا أمام تلك الحلويات كانت قليلة ومحدودة، فهي في كثير من الأحيان أنواع وأصناف بسيطة من الكعك دأبت الأمهات على تحضيرها داخل البيوت بما توفر فيها من مواد، دونما حاجة لاقتناء أخرى إضافية من الخارج: دقيق، سكر، زيت، زبدة، ماء الزهر.... ولإعدادها، لم تكن المبتدئات من الفتيات والسيدات يلجأن للكتيبات الخاصة بصناعة الحلويات ولا مشورة مواقع الإنترنت كما هو حاصل في زماننا، بل يقبلن عليها بعفوية وإقدام فتأتي في أحسن شكل وألذ مذاق.

ومن أصناف الكعك الشهيرة التي ارتبطت كثيراً بماضينا، أذكر واحداً امتد ذكره في الآفاق زمناً طويلاً وما زال يفعل؛ أتحدث عن حلوى "الغْريبية" أو "غْريبة" كما يشتهر ذكرها في مجموعة من المناطق المغربية.

والغْريبية كعك صغير الحجم وبسيط الشكل، مع لون قمحي وكتلة هشة ناتجة عن كمية الدهن الكبيرة المشكلة لها (زيت وزبدة)، هذا مع باقي مكوناتها الرئيسية، والتي لا تتجاوز الدقيق والسكر والماء في الغالب. وبالإضافة إلى إعدادها داخل البيوت، كانت تقتنى من محلات بيع الحلويات أو من بائعيها المتجولين في الساحات والأسواق.

وكان مما يأمله الصغار في مرافقتهم للآباء إلى فضاءات التسوق، أن يحظوا بواحدة منها، لتتحقق لديهم سعادة غامرة لم يكن الكبار ليتخيلوا مداها. وتحضرني هنا حكاية أحد أبناء الجيران الذي رافق أمه ذات يوم إلى فضاء "السوق البراني" (ساحة 9 إبريل)؛ مركز مدينة طنجة الرئيسي أيام زمان، ومهوى أفئدة المتسوقين والمتجولين والسائحين. إذ عاد الصغير من هناك على غير عهدنا به ذهابا؛ غاية في السعادة والانتشاء. ولم يكن الطفل لينتظر استفسارنا عن سبب سعادته، مبادرًا بالحديث إلينا، نحن رفاق طفولته من أبناء الحي، منطلقا يحكي لنا كيف اقتنت له أمه حلوى "الغْريبية" من أحد بائعيها، متوقفاً مع تفاصيل ما عاشه في هذه التجربة؛ مدققًا في وصف لذة الكعك ووقعه على لسانه وأسنانه، متفاعلاً في ذلك بنبرات صوته وحركات جسمه.

هكذا كان المسكين في قمة الفرح وكأننا به قد نال مراداً غالياً، فيما التزمنا نحن الصمت، نصغي إليه باهتمام وتركيز كبيرين، مستمتعين مشاركته إيانا مغامرته تلك، وعاقدين العزم على خوض تجربة تذوقها متى تمت مرافقتنا من طرف الآباء إلى "السوق البراني".

وللأمانة، لم يحصل أن حظيت بواحدة مماثلة لتلك التي حكى الطفل عنها، بالرغم من اقتنائي للكثير منها بعد ذلك واستمتاعي بأكلها مراراً، فقد كانت "غْريبية" "طفل الجيران" مختلفة وفريدة من نوعها (أو هكذا صورها لنا الطفل). وقد بدا لي فيما بعد أن مكوناتها لم تكن مقتصرة على ما تقدم من مواد، بل شاركتها مكونات أخرى من إبداع مخيلته الصغيرة.

ولم يكن التأثير السحري لهذه الحلوى مقتصراً على جماعة الصغار، بل امتد ليشمل الكبار كذلك، فقد شاركوا أبناءهم حبها، مقبلين على تناولها، يواجهون بها ضغط الجوع في انتظار وجبة من الوجبات الرئيسية، أو يستمتعون بحلاوتها فقط. وللحصول عليها لم يكونوا بحاجة للتوجه صوب محلات بيع الحلويات، بل يقتنونها من بائعيها المتجولين إذا ما ولجوا المقاهي المتواجدين بها أو صادفوهم في الأحياء وباقي الفضاءات العامة.

ومما يؤكد فرادتها وميزتها على غيرها، استمرارها في مرافقة باقي الأصناف الجديدة من الحلويات على الموائد المغربية في المناسبات الدينية والاجتماعية الكبرى؛ كاحتفالية "عيد الفطر"، متربعة وسطها، وصاحبة حظوة كبرى بينها، مقاومة في ذلك عامل الزمن والسنين، ومستمرة في إسعاد الكبار والصغار بيننا. أسجل هذا، والجميع يعلم أن فرصنا في تذوق حلويات جديدة أصبحت أكبر حديثاً، خصوصاً بعد أن تحسنت الأوضاع المادية للكثير من الأسر، متيحة لهم إمكانية اكتشاف أصناف أخرى مستجدة، هي أغلى ثمناً وأكثر تنويعاً في مكوناتها وألذ مذاقاً.