تناتيش ونغابيش

تناتيش ونغابيش

03 مايو 2020
+ الخط -
ـ حين رأيت إقبال مرتادي فيسبوك على الاستماع إلى تسجيل نادر للشيخ سيد مكاوي يتلو فيه سورة الضحى، أعادت صفحة (التحفجي) نشره بمناسبة قدوم شهر رمضان، وتذكير بعضهم لبعض بالمقطع الوارد في فيلم (سلامة) الذي تقرأ فيه أم كلثوم بعض آيات من القرآن الكريم، تذكرت واقعة نشرها الصحفي المخضرم حسين قدري في كتابه الممتع (حكايات صحفية)، حكى فيها أنه قام بتسجيل مذكرات الفنان الرائع محمد فوزي قبل أربع سنوات من وفاته، ولم يكن تسجيلاً بغرض النشر الصحفي، بل للإذاعة في برنامج كان يعده حسين قدري وتقدمه المذيعة مديحة نجيب.

بعد انتهاء التسجيل، سجل حسين قدري لمحمد فوزي سورة من سور القرآن الكريم يقول إن فوزي "لحنها وغناها بصوته بمصاحبة العود، فكانت تسجيلا إذاعيا نادرا وفريدا، لكن المذيعة مديحة نجيب التي سجلت لبرنامجها هذا التسجيل النادر ـ سامحها الله ـ رفضت إذاعته إلا بعد استئذان مراقبة الشئون الدينية في الإذاعة التي لم توافق طبعاً، لأن محمد فوزي ليس مُقرئا معتمداً، وتوفيراً لأشرطة التسجيل الإذاعية لأنها عهدة، فمسحت المذيعة مديحة نجيب التسجيل النادر للمطرب الوحيد الذي جرؤ على أن يغني القرآن ملحناً"، وفي موضع آخر من الكتاب يقول حسين قدري إن المذيعة مديحة نجيب حكت له أن مراقبة الشؤون الدينية في الإذاعة استولت على الشريط ورفضت إعادته إلى مديحة نجيب، مما يعني أنها لم تقم بمسحه، وأن أحداً ما قد احتفظ به.

توفي الأستاذ حسين قدري في صيف 2019 عن عمر ناهز السادسة والثمانين، دون أن يعثر على إجابة لأسئلته عن مصير شريط محمد فوزي، وهل تم مسحه فعلاً؟ أم أن من صادره في الرقابة احتفظ به للذكرى؟ أم أن أحداً ما قام ببيعه كما حدث للعديد من الأشرطة الإذاعية والتلفزيونية النادرة التي وجدت طريقها إلى هواة جمع التسجيلات في الخارج قبل الداخل؟ وهل حمى مسئولو الإذاعة محمد فوزي من حملة تكفير شرسة كانت ستلاحقه حتى الآن، دون أن يغفر له أحد حسن نيته ورغبته في التقرب إلى الله بما لحنه وغناه؟ خصوصاً أنه لم يكن أول من قام بتلك المحاولة، بل سبقه إليها الشيخ زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، وحلم بها رياض السنباطي وأم كلثوم.

راجع للاستزادة مقالاً جميلاً على موقع (منشور) بعنوان (تلحين القرآن: التاريخ الموسيقي الخفي للنص المقدس) عرض فيه كاتبه شريف حسن نماذج من أحلام ومحاولات تلحين القرآن الكريم في العقود الماضية، وأشار إلى طرح مجلة (الهلال) في عددها الصادر بتاريخ ديسمبر/كانون الأول 1970 للفكرة في تحقيق صحفي للكاتب ضياء الدين بيبرس بعنوان (تلحين القرآن بين أهل الفن ورجال الدين)، ويمكن أن تقرأ تحقيق بيبرس كاملاً على موقع (أرشيف المجلات) الذي أنشأه المثقف الكويتي محمد الشارخ، لترى كيف رفض المشايخ المشاركون فيه الفكرة بشكل كامل، وكيف حلم بها كبار أهل الفن، ونشر كل ذلك دون أن تتعرض المجلة للحرق والمصادرة، لأنها طرحت الفكرة وناقشتها، لكن المؤكد أن الموقف من الفنانين الذين تحمسوا للفكرة كان سيختلف لو نفذوها، ليلقوا في أحسن الأحوال مصير المطرب الإيراني محسن ناماجو الذي قام بمزج الموسيقى بكلمات من آيات قرآنية، فحصل على حكم بالسجن لمدة خمس سنوات برغم اعتذاره، وهو المصير الذي أفلت منه محمد فوزي رحمه الله بسبب قرار مديحة نجيب التي اشتهرت فيما بعد بتقديم البرنامج الديني (أبواب السماء)، وقد قرأت على الإنترنت أنها لا تزال على قيد الحياة، ومن يدري ربما كان لديها تفاصيل أخرى لهذه القصة. 

....

ـ في كتابه (الأمثال العامية) قدم أحمد باشا تيمور تجربة رائدة في جمع وتدوين ودراسة الأمثال والحكم الشعبية، لم تفقد أهميتها مع الزمن، برغم أن باحثين لاحقين قاموا بتجارب أكثر توسعاً في جمع وتدوين ودراسة الأمثال والحكم الشعبية، على رأسهم الدكتور إبراهيم شعلان الذي قدم موسوعة من أجزاء عن الأمثال الشعبية. والمعروف أن كتاب أحمد تيمور لم يصدر في حياته، بل أصدرته بعد وفاته (لجنة نشر المؤلفات التيمورية) والتي تولت استكمال نشر ما تركه خلفه من مخطوطات تجاوز عددها الستين مخطوطة، كان من بينها قاموس للكلمات العامية مكون من ستة أجزاء، وقد قام الدكتور حسين نصار بتحقيقه وأصدره عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في الثمانينات بعنوان (معجم تيمور الكبير للألفاظ العامية).

حين بدأت في عام 2005 في كتابة باب بعنوان (تلك الأمثال) كان يُنشر أسبوعياً في صفحة (قلمين) الساخرة بصحيفة (الدستور)، وكنت أمزج فيه ما بين تأليف أمثال شعبية جديدة، وما بين إعادة صياغة أمثال قديمة، كنت أقرأ كتاب أحمد تيمور بانتظام، فلا يفارقني الاستمتاع بقراءته وإعادة اكتشاف أمثال شعبية مجهولة غير التي نحفظها عن ظهر قلب، وأصبحت جزءاً من لغتنا اليومية، وكان أحمد تيمور يختص هذه الأمثال بالشرح والتفسير لكي يقرب بينها وبين القارئ الذي لم يعتدها، لكن هذه الأمثال ظلت بعيدة عن الاستخدام الشعبي واسع النطاق، ربما لأن وسائل الاتصال كالإذاعة والتلفزيون والسينما والصحافة لم تقم بتبنيها ونشرها، بسبب جرأتها أو غرابتها، أو ربما لأن "نصيبها لم يصبها" بعد، والنصيب كما تغلب غلّاب، وقد اخترت لك من بين هذه الأمثال ما يلي، مرفقاً كل مثل بملخص لما قدمه أحمد تيمور من شرح وتفسير له:

ـ زي فِسا طلّاع النخل لا هو طالع فوق ولا واصل تحت. (يُضرب هذا المثل للشيئ يعمل لا يفيد القريب ولا البعيد).

ـ قاعد على نُخ وعمّال يُجُخ (يُضرب للمتفاخر بشيئ وحاله يكذبه).

ـ طاهرت أنا عنبر قام فرشح سعيد. (يُضرب هذا المثل للأمر لا يكاد المرء ينهيه ويستريح منه حتى يفتح عليه آخر).

ـ زي شُخاخ الجمال تملِّي لورا. (يُضرب هذا المثل للشخص يبقى متأخرا معكوس الحركات فهو كبول الجمال يرمى به إلى وراء دائما).

ـ إسمع ظراطه ولا تسمع عياطه (أي إذا لم يكن بد من تحمل أذى ما فاختر أخف الضررين).

ـ طلعت تجري يادندون إنك تكيد الرجالة خطفوا طاقيتك يادندون ورجعت راسك عريانة (يُضرب لمن يشرع في أمر يعلو به على سواه فيعود بالخيبة).

ـ الزعبوط العيرة يبان من لَمِّ ديله. (يعني أن الثوب المُستعار يُعرف بقلة اكتراث لابسه بضم طرفه عن الأرض، لأنه لا يهتم به كاهتمامه بثوبه).

ـ بعد سنة وسِتّ أشهر جت المِعَدِّدة تُشخُر. (يُضرب للأمر الذي يتم عمله بعد فوات وقته).

ـ زي البغل الشموش اللي يمشي قدامه يعضه واللي يمشي وراه يرفصه. (مثل يطلق على فئة من البشر كلما ألقيت عليها أملاً خيبت أملك ووجدت أنها ستضرك في كل الأحوال).

ـ الدراهم مراهم تخلي للعويل مقدار وبعد ما كان بكر سموه الحاج بكار. (اتهمني أحد سيئ النية بتأليف المثل لكي أهاجم أحد نجوم السلفيين، واضطررت للتذكير بأن المثل موجود في صفحة رقم 246 من كتاب أحمد تيمور، طبعة دار الشروق).

ـ بقى للشَّخرم مَخرم وبقى للقرد زِنَاق وبقى له مَرَة يحلف عليها بالطلاق. (الشخرم يقصد به الشخص الوضيع، والمخرم يعني المسلك بين جبلين والزناق خيط تربط به القلنسوة والمعنى: صار للشخص الوضيع مايدخل ويخرج منه، أي صارت له دار وصار له زوجة يتحكم فيها ويحلف عليها بالطلاق وقلنسوة يخشى من سقوطها بعد أن كان مكشوف الرأس كالقرد.).

يمكن أن أضيف إلى هذه الأمثال البليغة مثلاً أورده الدكتور إبراهيم شعلان في موسوعته للأمثال الشعبية يقول: "لو الأحف بلغ عَدَلُه كان فَلَق النخلة"، والأحف هو الدنئ والمثل يُضرب للشخص الشرير الذي لا تمكنه الظروف من إظهار شروره على الناس فلو استطاع ذلك لبلغ من قوته كثيرا، مما يوجب على العاقل إذا عرف دناءة شخص ألا يأمن له لأنه لو تمكن لأظهر كل ما به من شرور ودناءات.

وللحديث مع الأمثال الشعبية المجهولة بقية في مناسبة أخرى بإذن الله.

...

من أجمل ما ستجده في كتب الأمثال الشعبية، المثل/القصة الذي يكثف بعبقرية حالة درامية وإنسانية في أقل عدد ممكن من الكلمات، وفي الغالب يبدأ هذا المثل بكلمة قال أو قالوا، كبديل لتعبير "يروي فلان" أو "يُحكى أن"، وقد اخترت لك من هذا النوع الأمثلة التالية على سبيل المثال لا الحصر:

ــ قال: ياربي دخلنا بيت الظالمين وطلعنا سالمين، قال: وإيش دخلك وإيش طلعك.

ـ قالوا أبو فصاده بيعجن القشطة برجليه، قال كان يبان على عراقيبه.

ـ قالوا للجعان: الواحد في واحد بكام، قال برغيف.

ـ قالوا للديب: حيسرّحوك في الغنم قام عيّط، قالوا: ده شيئ تحبه، قال خايف يكون الخبر كدب.

ـ قالوا للغراب: ليه بتسرق الصابون؟ قال الأذيّه طبع.

ـ قالوا للقرده: اتبرقعي، قالت: دا وش واخد على الفضيحة.

ـ قالوا للمخوزق: استحي، قال: اللي راجع الدنيا هو بس اللي يبكي عليها.

ـ قال: الله يلعن اللي بيسب الناس. قال: الله يلعن اللي يحوج الناس لسبه.

ـ  قال له ياسيدنا الشيخ الكلب عملها على الحيطة، قال تتهد وتتبني، قال له ياشيخ دي الحيطة اللي مابينا وبينك، قاله لا دي أقل الماء يطهرها.

وأظن أن المثل الأخير والذي هو بمثابة قصة بليغة تلخص علاقة الفلاح المصري المريرة بأدعياء التدين عبر العصور، يصلح لأن تكون خير ختام لهذه الجولة السريعة في عالم الأمثال الشعبية المدهش.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.