حرب 48 بعيون إسرائيلية (1/2)

حرب 48 بعيون إسرائيلية (1/2)

20 مايو 2020
+ الخط -
مع أن الفيلم الذي سأحدثك عنه، تدور أحداثه في عام 1948 الشهير في تاريخنا العربي الحديث بوصفه (عام النكبة)، إلا أنني ظللت أثناء مشاهدته أفكر في أيامنا هذه التي يتردد فيها ذكر تنظيم (داعش) وأفعاله الإرهابية، خاصة أن الميديا الغربية كانت في نفس وقت عرض الفيلم تموج بتحقيقات وتقارير ترصد ظاهرة سفر عدد من المواطنين المسلمين الغربيين الذين ولدوا وتربوا وعاشوا في الدول الغربية، ثم فوجئ بهم أهلهم وقد سافروا للالتحاق بداعش تحت شعار نصرة الدين الإسلامي، مما جعلني أسأل: كيف سيكون رد فعل تلك الميديا، لو تم إنتاج فيلم مشابه للفيلم الذي أراه، يمجد أولئك الذين يحاربون في بلاد غريبة عنهم بزعم نصرة دينهم، ويصور قيامهم بقتل المدنيين وإرهابهم بوصفه بطولة خارقة؟ ولم أكن بحاجة لإجابة على سؤالي، فأنا وأنت نعرف الإجابة جيداً.

الفيلم الذي عرضه مهرجان نيويورك الدولي للأفلام الوثائقية عام 2015، وأخرجته المخرجة الأمريكية روبرتا جروسمان، يحمل عنوان ((Above and Beyond، ويكشف لأول مرة بشكل علني وموثق، دوراً خطيراً قام به مجموعة من الطيارين الأمريكيين اليهود الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، ثم عادوا إلى بلادهم حيث تم تسريحهم من الخدمة، لكنهم بعد أن تم اندلاع حرب 1948 التي أعقبت إعلان دولة اسرائيل وشاركت فيها عدة جيوش عربية، وتحت تأثير الخوف من تكرار تجربة الهولوكوست التي كانت لا تزال حاضرة في الأذهان بقوة، قرروا أن ينضموا إلى تشكيل سري لمساعدة اسرائيل على إنشاء سلاح للقوات الجوية دعمه عدد من رجال الأعمال الصهاينة المقيمين في نيويورك، لتتم عملية جمع تبرعات ضخمة في الخفاء، تم بعدها شراء عدد من الطائرات الأمريكية التي شاركت في الحرب العالمية الثانية، ليتم تكهينها بعد الحرب، وأصبحت تباع للراغبين في الاقتناء من الأثرياء، دون أن يخطر على بال السلطات أنها يمكن أن تستخدم لأغراض حربية.

ربما ساعدت أجواء الهدوء التي كانت تعم أمريكا بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على أن يتم كل ذلك في هدوء تام، خاصة أن عملية تجنيد الطيارين كانت تتم في سرية تامة، لأن القوانين الأمريكية وقتها كانت تسقط الجنسية عن أي مواطن أميركي ينضم إلى أي جيش سواء كان لدولة صديقة أم دولة معادية، طالما لم يتم ذلك بتكليف من قيادته العسكرية، أما الطائرات المشتراة نفسها فلم ينتبه أحد إليها، بعد أن تم تفكيكها ووضعها في طائرات شحن سافرت بها خارج البلاد دون أن يلفت ذلك نظر أحد، وإن كان قد تم فيما بعد اكتشاف طائرة من هذه الطائرات خلال توقفها للتزود بالوقود في البرتغال، وقامت الحكومة الأميركية بطلب رسمي لاسترجاعها، وتعاونت معها السلطات البرتغالية لكنها احتجزت الطائرة لديها.

لم يكن عدد هؤلاء الطيارين اليهود كبيرا، ولم يكونوا جميعاً منتمين إلى الفكر الصهيوني، بل إن أحدهم ـ وقد أصبح بعد ذلك كاتب سيناريو شهير في هوليود ـ يعترف خلال شهادته في الفيلم أنه لم يكن متديناً أصلاً، وأن ما دفعه للانضمام إلى التشكيل السري هو أنه وجد في فكرة أن يعود للطيران الحربي أمراً يشبع رغبته في العودة للقتال ويعيده إلى أجمل أيام عمره، ولذلك لم يخجل من الاعتراف أنه وزملاؤه عاشوا ليالي حمراء صاخبة خلال محطات توقفهم في رحلة تهريب الطائرات إلى اسرائيل التي كانت لا تزال دولة وليدة وقتها، وهي رحلة طويلة وخبيثة التخطيط بدأت من لوس انجلوس بالولايات المتحدة، ثم إلى بنما ثم إلى البرازيل ثم إلى روما، التي كانت اشد محطات رحلة الطيارين مجونا وإثارة، وبعدها تواصلت الرحلة إلى تشيكوسلوفاكيا، التي تم فيها إدخال تعديلات فنية على الطائرات واستبدال بعض معداتها المتهالكة بقطع غيار جديدة، حتى لو لم تكن متوافقة تماما معها، وبدأ الطيارون يتلقون هناك تدريبات مكثفة على الطيارات المعدلة، لينضم إليهم طيارون يهود من جنوب أفريقيا وكندا أيضا، ويبدأ بذلك تشكيل أول وحدة لسلاح الجو الإسرائيلي، كان من رؤسائها الطيار عيزرا فايتسمان الذي أصبح رئيساً لإسرائيل بعد ذلك.


حين حمي وطيس الحرب أكثر، وبدا أن الجيوش العربية بدأت تحقق تقدما في الزحف نحو تل أبيب، تلقى الطيارون نداءات من القيادة العسكرية الإسرائيلية تدعوهم إلى تقصير مدة التدريبات، والإسراع بإحضار الطائرات للانضمام بها إلى المعركة، وهو ما كان يشكل مخاطرة غير محسوبة، ساعد القادة العسكريون الإسرائيليون في حسمها حين تم إطلاع الطيارين على نماذج لما تقوله الصحف والإذاعات العربية، من أنها حين تدخل تل أبيب لن تترك يهوديا إلا وقتلته، وأنها لن تكرر هذه المرة خطأ هتلر بترك بعض اليهود أحياء، ليتوجه الطيارون بطياراتهم القديمة المجمعة إلى أرض الدولة الوليدة لإنقاذ "بني قومهم"، ليظهر أثر عامل الشحن الديني جلياً، حين يقول أحد الطيارين وهو يغالب دموعه بعد كل هذه السنوات، إنه حين رأى أرض اسرائيل وهو يتوجه نحوها بالطائرة، شعر أنه رأى هذه الأرض من قبل في التوراة، وأخذ يبكي لأنه أدرك أنه يؤدي واجباً مقدساً لإنقاذ بني وطنه، ولم يعد يفكر في أي خطورة يمكن أن تلحق به.

بعد فترة وجيزة من وصول الطائرات، بدا أن قادة اسرائيل كانوا محقين تماما في استقدام الطائرات للاشتراك في الحرب بأي شكل، لأن موازين الحرب انقلبت بفعل عامل المباغتة الذي تعرضت له الجيوش العربية بتعرضها لقصف الطيران الإسرائيلي الذي لم تكن تعلم بوجوده أصلا، وبدلا من أن تصل القوات المصرية الضخمة إلى تل أبيب لسحق مركز قيادة الدولة الوليدة، تعرضت هذه القوات للقصف المركز من أربع طائرات اسرائيلية فقط، ليتوقف زحفها على تل أبيب، وتكون تلك الضربة كما يدعي الفيلم سببا في طلب القوات العربية للهدنة الأولى في الحرب، مما أكسب القوات الإسرائيلية دفعة معنوية مذهلة، خصوصاً أن تل أبيب كانت تتعرض منذ بدء الحرب لقصف مكثف من الطيران المصري، كان يحدث خسائر فادحة في الأرواح والمنشآت، لأنه ـ طبقاً لما يرويه الفيلم ـ كان يقصف المنازل ومحطات النقل العام أيضاً، فيزيد من مخاوف الرأي العام الإسرائيلي الذي يعتبر دولة اسرائيل فرصته الأخيرة في البقاء، ولذلك كان سكان تل أبيب وغيرها من المدن الإسرائيلية يبتهجون حين تمر طائراتهم في السماء، لتشعرهم أنهم أصبحوا يمتلكون الآن قوة جوية كالتي يمتلكها أعداؤهم العرب، لكن أحدا لم يقل لهم في وسائل الإعلام الإسرائيلية أن من يقودون هذه الطيارات ليسوا من أبناء اسرائيل أصلاً، وهو ما نتج عنه موقف شديد الدلالة يرويه أحد الطيارين في الفيلم، حين حكى كيف سقطت طائرته خلال اشتباك مع بعض الطائرات الأردنية، فنزل بالباراشوت على أرض كان يحسبها أرضا عربية، فأعد نفسه للقتال حتى آخر رمق، ليفاجأ بمجموعة من الفلاحين يقتربون نحوه وهم يصيحون بالعبرية، فيكتشف أنهم اسرائيليون، لكنهم حين يجدونه غريباً، يظنونه عربياً ويهمون بالفتك به دون أن يعلموا أنه قدم لنصرتهم، ولأنه لا يعرف الحديث بالعبرية، يبدأ في تذكر كل الكلمات العبرية البسيطة التي كان يسمعها من أفراد أسرته الذين كانوا من يهود أوروبا المهاجرين إلى أميركا، ومن بينها أسماء أكلات يهودية شهيرة، ويبدأ في ترديد تلك الكلمات بشكل سريع هستيري قبل أن يفتكوا به، ليلفت ذلك انتباه المهاجمين له فيبدئوا في استيضاح الأمر حتى يكتشفوا انه طيار في سلاح الجو الإسرائيلي، ليتعاملوا معه كبطل، ويساعدونه على العودة إلى القاعدة الجوية من جديد.

في موضع آخر يكشف الفيلم واقعة شديدة الخطورة قام بها سلاح الجو الإسرائيلي الناشئ، وهي تستحق بالفعل وصفها بأنها "واقعة" لأنها وقعت عليّ كالصاعقة وأنا أشاهد الفيلم، ولولا أن الفيلم عرض نتائجها بشرائط مستمدة من الأرشيف البريطاني، لتشككت في حدوثها، خصوصا أنها واقعة ليست مشهورة في الأدبيات التاريخية التي وثقت لحرب 1948 من وجهة النظر العربية، ولذلك قلت لنفسي حين رأيتها: ربما تاهت عني في الكتب التي قرأتها عن حرب 48، ثم مِلت على الصديق حسام بهجت الذي كان يشاهد الفيلم معي، لأكتشف أنه يسمع عن الواقعة لأول مرة، واتفقنا بعد الفيلم أن يسأل كل منا أصدقاءه إذا كان قد سمع عن هذه الواقعة أم لا، لنكتشف أن قليلين من بين كل أصدقائنا من الكتاب والصحفيين هم الذين يعرفون هذه الواقعة، وحتى هؤلاء مرت عليهم خلال قراءتهم لمصادر أجنبية فقط.

يروي الفيلم أن سلاح الجو الإسرائيلي كان قد تعاقد على شراء طائرات مقاتلة بريطانية من طراز بي 17 كانت أيضا من المقاتلات التي شاركت في الحرب العالمية الثانية، وكان لها سمعة مشرفة خلال أدائها في الحرب، وبعد أن تم شراء الطائرات وبدأ التحضير لاستقدامها إلى اسرائيل، كانت الهدنة كما يروي الفيلم قد تم خرقها من الجانب المصري الذي عاد ليقاتل بشراسة لكي يثأر للضربة التي فاجأته، وعادت الضربات الجوية المصرية لتضرب قلب تل أبيب بقوة، قرر قادة سلاح الجو الإسرائيلي أن يقوموا بإدخالها في القتال مباشرة، خصوصا أن إمكانياتها القتالية كانت أفضل من إمكانيات الطائرات السابقة، ويعرض الفيلم بالتحديد لتفاصيل طلعة جوية كان هدفها الدخول إلى المجال الجوي المصري ومحاولة التسلل إلى القاهرة لقصفها، ولم يصدق قائد الطيارة نفسه حين وجد نفسه يصل ليلا إلى أطراف القاهرة دون أن يعترضه أحد، وحين اقتربت طائرته من القاهرة أكثر والتقطها الرادار المصري، تلقى إشارة لاسلكية من المراقبة الجوية لمطار القاهرة تطلب من الطائرة الإبلاغ عن هويتها، فيقوم الطيار بالتصرف السريع ويدعي أنها طائرة تجارية تريد المساعدة على الهبوط في مطار القاهرة، فتقوم السلطات الجوية كما يروي الفيلم بمساعدة قائد الطيارة بمده بإرشادات تسهل مروره، لتقوم الطائرة بقصف قصر الملك فاروق، ويعرض الفيلم صورا أرشيفية بريطانية لآثار ذلك القصف المدمرة، وحين أمعنت النظر في الصور، لم أجدها مشابهة لمنطقة عابدين، لأخمن أن القصف ربما كان في منطقة مجاورة لقصر الطاهرة.

حين عدت إلى البيت بعد مشاهدة الفيلم، هرعت إلى شبكة الإنترنت متمنياً أن أجد تكذيباً لما شاهدته في الفيلم، وكالعادة لم أجد مصادر بالعربية تروي الواقعة، لكنني وجدت تأكيدات عليه في مصادر غربية متعددة تحدث بعضها عن قصف الملك فاروق بالتحديد وليس فقط قصف المنطقة المجاورة له، منها مثلاً خبر نشرته صحيفة (نيويورك تايمز) بتاريخ 16 يوليو/تموز 1948، وفي الخبر عرض موجز لبيان لوزارة الدفاع المصرية، لا تشير فيه الوزارة بالطبع إلى أنها تعاونت مع الطائرة القادمة، بل وساعدتها على بلوغ هدفها، بل يكتفي بيان الوزارة بتأكيد وقوع هجوم على القاهرة من قبل طائرة ما ألقت بعض القنابل، دون أن تحدد جنسية الطائرة، لكن خبر النيويورك تايمز ينقل عن وكالة (يونايتد برس) أن تل أبيب أكدت هجومها الجوي الأول على القاهرة، كما أضافت أن طائرتين ثانيتين قامتا بقصف الحدود المصرية، وأن الطائرات الثلاث عادت إلى قواعدها سالمة، وهو ما لم تتم الإشارة إليه في الفيلم، حيث تم الاقتصار على ذكر تفجير القاهرة وأنه وقع من طائرة واحدة، ربما لأن الفيلم التقى بالطيار الذي نفذ تفجير القاهرة، ولم يلتق بالطيارين الآخرين، لكن خبر النيويورك تايمز ـ بالإضافة إلى عدد من المصادر المتاحة على شبكة الإنترنت ـ يؤكد وجود هجمات جوية اسرائيلية وقعت في نفس التوقيت على العاصمة السورية دمشق ومناطق سورية أخرى والعاصمة الأردنية عمان، وهو ما لا يشير إليه الفيلم الذي يتحدث فقط عن هجمات استهدفت القوات العراقية والسورية والأردنية والمصرية داخل فلسطين، لكن الفيلم يعترف في نفس الوقت بخسائر تعرضت لها بعض الطائرات الإسرائيلية أدت إلى مقتل بعض الطيارين الذين برغم ما قدموه من تضحيات جسيمة لإسرائيل لم يتم تكريمهم علنا.

...

نكمل غدا بإذن الله..
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.