ماذا حدث للمصريين طبعة 1907

ماذا حدث للمصريين طبعة 1907

19 مايو 2020
+ الخط -
حين قرر الكاتب الشاب صالح حمدي حماد أن يتفرغ في عام 1907 لإصدار كتاب بعنوان (حياتنا الأدبية)، لم يكن يقصد تأليف كتاب عن أحوال الأدب والأدباء في مصر، مع أنه كان مهتماً بالقصص الأدبية، وقام بجمع وترجمة عدد منها في كتاب من ثلاثة أجزاء صدر بعنوان (أحسن القصص)، بل كان منشغلاً بكتابة ما وصفه بأنه "موجز في علم الأدب الاجتماعي العصري"، خصصه لدراسة أحوال المجتمع المصري الأخلاقية وآداب المصريين وسلوكياتهم، ولم تكن نتيجة ما درسه مشرفة من وجهة نظره، حتى أنه من شدة غضبه من أحوال المجتمع المصري، توقف لفترة عن استكمال تلك الدراسة، التي نشر منها عدة فصول في صحيفة (المؤيد) الشهيرة التي كان يصدرها الشيخ علي يوسف، وقرر أن ينشغل بتأليف كتاب بعنوان (أدب الإسلام)، وصفه بأنه "رسالة جامعة لأهم الأصول والقواعد في آداب الإسلام في الاعتقادات والعبادات والعلم والعمل والمعاشرات ونظام الحكومة الإسلامية وأدب النفس نحو الخلق ونحو الخالق تعالى ثمنها 6 صاغ".

صدر كتاب (حياتنا الأدبية) سنة 1907 وطبعته مدرسة والدة عباس الأول الكائنة بالطرقة الشرقية بشارع خيرت بالقاهرة، وقد كانت مصر وقتها تحت حكم الخديوي عباس حلمي الثاني، وقد افتتح صالح حمدي حماد الكتاب بإعلان غضبه الشديد على من وصفهم بأنهم "أفراد طبقة الأمة المصرية الدنيا"، الذين يقول أنهم يشتهرون "على اختلاف نِحَلهم بشيء من الخفة والطيش مع السذاجة وسلامة النية غالباً، وإن صدق ما يقول الذين بحثوا في أخلاقنا من الأسلاف الطيبين فقد خُصّت هذه الفئة كذلك بشيئ من الخلاعة وحب المجون، فباجتماع هذه الصفات وبضميمة ذلك العدو اللدود من الجهل المطبق إليها تكوّن في أخلاق جمهور سكان المدن لدينا من الحِيَلة وأهل الغباوة والدعارة مزيج من الاخلاق الشائنة، لا يمكن أن نسميه إلا فساداً أو شراً ترى آثاره في سلوك الأفراد بحسب الاستعداد وقابليات الطبقات وتؤثر وتظهر في مجموع أخلاق الأمة وآدابها العمومية خصوصاً في الطبقات الأقرب لتلك الطبقة الدنيا وأحداثها ومن تسرق أخلاقهم من أخلاقها".

ثم يواصل صالح حمدي حماد ـ أو الأديب النابغة كما كانت تصفه بعض صحف زمانه ـ وصف أحوال تلك الطبقة والمتأثرين منها بقوله: "وهذا الذي يُشاهد من أحوال تلك الطبقات في مجتمعاتها وعلى قوارع الطرق من قلة الحشمة والمجاهرة بفحش القول وبذاءة اللسان والوقاحة والتهتك والخصام والتنكيت وإلقاء الأقوال على عواهنها بلا مبالاة ولا احتشام ولا مراعاة إحساسات إنسان، وإن يكن أكثره بسلامة نية وسذاجة للجهل عادة بأنه من المساوئ والرذائل الشائنة التي لا ينبغي أن يتصف بها إنسان خصوصاً في هذا العصر عصر الجد والاجتهاد والأدب، وأهل هذه الطبقة من الأمة لجهلها وغباوتها ونقص تربيتها يكثر بينهم الكذب والغيبة والنميمة، وهذ إذا ما حدثت بخبر قلبته وصرفته عن مواضعه وزادت عليه من عندياتها... فهكذا حال الطبقة الجاهلة عندنا تقلب الحقائق وتزيد عليها فتذيع مقلوبة ممسوخة وتبدو على الشفاه خرافات وخزعبلات يؤخذ بها على رأينا العام".


ولعلك حين ترى تقارباً في رؤية صالح حمدي حماد لسلوكيات وآداب عموم المصريين، ورؤية الكثير من المستشرقين الأجانب، تتصور أنه رجل غريب على مصر وأهلها، وأنه ربما كان تركياً أو إيرانياً من الذين زاروها فجأة فصدمهم ما رأوه من آداب شعبها، خاصة أنه حرص على أن يضع في صدارة كتابه اسمه بالإنجليزية، مكتوباً هكذا S. Hamdi Hammad لكنك حين تبحث عنه في كتاب (الأعلام) لخير الدين الزركلي، وكتاب (أعلام علماء مصر) لنبيل أبو القاسم، ستجد أنه مصري أباً عن جد، وأنه ولد في القاهرة عام 1865 ونشأ فيها، وحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد أبو السعود القارئ، ثم درس بمدرسة المبتديان ومدرسة فالوا بالاسكندرية ومدرسة الفرير بالقاهرة التي تعلم فيها الفرنسية، ليتم تعيينه بعد تخرجه في قلم الترجمة، لكنه استقال بسبب مرض في عينه، وتفرغ للقراءة والكتابة، حتى توفي في عام 1913.

توحي قائمة الكتب التي تركها صالح حمدي حماد خلفه مؤلفة أو مترجمة إنه كان منشغلاً بمسألة الأدب و"الرقي" إلى أبعد حد، مما جعله ينتج مؤلفات تحمل عناوين: "نحن والرقي ـ تربية النفس بالنفس ـ حياتنا الأدبية ـ تربية البنات في سبيل الحياة ـ عجائب المتأدب ـ تاج العروس في تهذيب النفس"، لكن فهم موقفه الغاضب من آداب وسلوكيات "مواطني الطبقات الدنيا" من المصريين، ربما يتضح أكثر حين تقرأ سيرة والده حماد عبد العاطي باشا، الذي يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه (عصر محمد علي) إن علي باشا مبارك كان يسميه الأمير الجليل، وهو أصلاً من دير الجنادلة مركز أبو تيج بأسيوط، وكان له فيها جد شهير يسمى عيسى له زاوية هناك تسمى زاوية عيسى، وقد بدأ دراسته في مدرسة أبو تيج ثم انتقل منها إلى مدرسة قصر العيني ثم مدرسة أبي زعبل، ثم مدرسة المهندسخانة ببولاق، ثم تم اختياره لدراسة الفنون الحربية بفرنسا، فالتحق بمدرسة المدفعية بمدينة متس وخدم في "الألايات الطوبجية الفرنسية" لمدة سنة، ثم عاد إلى مصر وتدرج في عدة وظائف منها التدريس بالمدارس الحربية ونظارة قلم الهندسة بديوان الأشغال، ونال رتبة البكباشي ثم الأميرالاي، وصار مستشاراً بمحكمة الاستئناف المختلطة سنة 1879، وقد كان حظه مع التاريخ أفضل من كثير من زملائه، حيث جعله الكاتب محمد السيد عيد واحداً من أبطال مسلسله (علي مبارك) الذي أخرجته إنعام محمد علي، حيث ظهر بوصفه صديق علي مبارك المتصالح مع النفس والذي لا يشعر بالغيرة من تولي علي مبارك للعديد من المناصب الرسمية، ولعب دوره الممثل المتميز باسم سمرة.

في ختام كتابه الصغير (حياتنا الأدبية) يشعر صالح حمدي حماد أن القارئ ربما شعر بوجود نبرة استعلاء في حديثه عن عموم المصريين بسبب أصوله العائلية، لذلك قرر أن يختم الكتاب بحديث يؤكد فيه على تسامحه الديني والأخلاقي، وعلى أهمية أن يدفعك الدين إلى التواضع والبعد عن الغطرسة والخيلاء، لكنه في الوقت نفسه لم ير أن هناك مشكلة أو عيباً من الناحية الأخلاقية أو حتى الدينية، في أن يقوم بإلصاق النقائص والرذائل بجموع غفيرة من البشر سواء كانوا من أهل المدن، أو من أهل الطبقات التي يصفها بالدنيا، أو حتى من أهل الريف الذين يقول عنهم في موضع آخر من كتابه: "ولئن كان أهل الريف عندنا أحشم نفوسا من أهل المدن لبعد الأوساط عن بؤرات فساد المدن وغوغائها، إلا أن لهم هم أيضا مصائب وشروراً أضحت أشهر من نار على علم من أكمان الأحقاد وكثرة الانتقامات والمنازعات والتزويرات إلى أشباه ذلك مما لا يمكن لعقل إنسان أن يتصور أنه يوجد كهذا شر في صفات الإنسان".

ومع أن صالح حمدي حماد يخصص فصولاً من كتابه للحديث عن النظام السياسي الأمثل الذي يجب أن يسود في مصر للارتقاء بأحوالها، إلا أنه لا يوجه لحكام مصر ومسئوليها نفس النقد القاسي الذي يوجهه لعامة شعبها من أهل المدن والريف، بل يلجأ إلى الحديث بشكل عام ومنضبط عن خطورة الاستبداد وأهمية الانتخابات النيابية وحرية الصحافة وحرية العقيدة والعبادة، لكنه برغم تأكيده على أهمية ربط المسئولية بالحرية، يشدد على أن سلامة العقل شرط من شروط الحرية والمسئولية، حريصاً على أن يدين الآراء الاشتراكية "الزائغة التي تنكر الوطن وتجحد الوطنية" لأن "قول الاشتراكيين بالإنسانية إنما هو توسع لا يمكن أن يتحقق أمره اللهم إلا إذا كان ذلك في الحياة الآخرة"، مؤكداً في موضع آخر على أنه "من الغلط الفاحش أن يتوهم متوهم أن الحكومة يجب عليها أن تعمل لنا كل شيء"، وحين يرد تعبير "العبث بالسلطة" في كتابه، يأتي فقط مرتبطاً بإدانة تشغيل الأطفال في وابورات الحلج في مدينة المنصورة، والتي لم يسلط عليها الضوء في الصحافة إلا بعد أن أدانها أعضاء في البرلمان البريطاني، حيث يصف صالح حمدي حماد مدراء تلك المحالج وأصحاب الأعمال وأقارب الأطفال بخلوهم من الشفقة والرحمة وعبثهم بالسلطة للضغط على حرية الأطفال القصر أو تكليفهم ما لا يطيقون.

لا يتوسع عاشق الرقيّ في كتابه في إدانة الأوضاع السياسية والاجتماعية التي يعيشها المصريون في ظل الاحتلال الإنكليزي الذي كان مخيماً على البلاد، مع أنه يشير إشارة عابرة إلى مقالتين كتبهما في (المؤيد) عن حق المصريين في إلغاء الامتيازات الأجنبية في سنة 1905، وكنت قد وجدت في أحد هوامش كتاب الدكتور محمد محمد حسين (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) إشارة إلى محاضرة ألقاها صالح حمدي حماد في المؤتمر المصري الأول الذي عقد في فبراير 1910، عقب مصادمات طائفية بين المسلمين والمسيحيين، كانت بعنوان "تمحيص مطالب الأقباط وإزالة موجبات الشقاق"، مما يوحي أنه كان منشغلاً بكثير من تفاصيل الشأن العام، لكنه لم يختر جمع تلك المقالات في كتاب، ولم يشأ الإشارة إليها في كتابه.

في موضع آخر من الكتاب يدين صالح حمدي حماد موقف المصريين من الخدمة العسكرية قائلاً: "إنا لم نزل نجهل قيمة الخدمة العسكرية وشرفها العظيم، بل أكثر من ينخرطون عندنا من الشباب في سلك العسكرية بمقتضى قانون القرعة المصرية يؤخذون على كره من ذويهم الذين قد ينصبون عليهم المناحات كأنهم أخرجوا من عالم الأحياء ويبذلون كل مرتخص وغال لخلاصهم منها"، لكنه لا ينشغل بمحاولة تفسير ذلك الموقف المعبر عن إدراك عموم المصريين لخطورة زج أبنائهم في مغامرات عسكرية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ناسياً أن نتائج تلك المغامرات العسكرية كانت تعني فعلاً "الخروج من عالم الأحياء" لمن لم يكن له واسطة أو حظوة مثله ومثل أبناء الطبقات العليا التي يشكو في أكثر من موضع من تأثرها بأخلاق الطبقات الدنيا، لكنه لا يفرد نفس القدر لإدانة تأثر تلك الطبقات العليا التي يرجّي عليها آمال تقدم المجتمع، بأخلاق الفرنجة وسلوكياتهم، بل يشير إلى ذلك إشارات عابرة، ربما لأن التوسع فيها لن يخدم فكرته الرئيسية التي تتهم أبناء الطبقات الدنيا بالويل والثبور وعظائم الأمور.

بالطبع، لا يمكن أن يتم نزع رؤية صالح حمدي حماد بعيداً عن سياق زمنه وعن تكوينه الاجتماعي، لكنك لا يمكن أن تغفل أن مجمل الرؤية التي يطرحها لأحوال المجتمع، لا زال سائداً لدى الكثير من المثقفين والكتاب والفنانين الذين يتصورون أنهم من "أبناء الطبقات الأرقى"، والذين يعقدون في مقالاتهم ومقولاتهم ومداخلاتهم البرامجية وعلى صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي محاكمات يومية عنيفة، تقوم بتوقيع أحكام الإدانة على ملايين المصريين الذين تتم إدانة سلوكياتهم وآدابهم وطريقتهم في التعامل مع الواقع المحيط بها، بوصفها اختياراً ينبع من سوء تكوينهم أو عيوبهم الخَلقية التي لا يمكن إصلاحها، دون أن يوجهوا إدانة أشد وأقوى ـ أو حتى مماثلة ـ لأصحاب النفوذ والسلطة المسئولين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً عن خلق وتعقيد تشوهات وانحرافات الواقع، التي لولاها لما شاعت تلك السلوكيات التي تغضب "الحزانى على بلادهم والغاضبين من قلة أدب شعبهم"، ربما لأن هؤلاء يعلمون ـ مثل ما كان يعلم صالح حمدي حماد من قبل ـ أن لوم الطرف الأضعف أسهل وأكثر أماناً بالإضافة إلى أنه ألذ وأشهى، لأنه يساعد على تعزيز الشعور الوهمي بالتفوق والرقي.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.