قاسم سليماني من "رموز" الجزيرة بودكاست

قاسم سليماني من "رموز" الجزيرة بودكاست

13 مايو 2020
+ الخط -
يستمر غضب السوريين بالتزايد إثر نشر "الجزيرة بودكاست" حلقة من برنامجها "رموز" بعنوان "سليماني رأس حربة إيران". وإن كانت الشبكة قد أقدمت البارحة على إنهاء حساب "الجزيرة بودكاست" كاملاً على يوتيوب، وهو ليس منصة تقليدية للبودكاست، بدون أي تفسير علني، فإن بقية حسابات المشروع على منصة ساوندكلاود وآبل بودكاست وغوغل بودكاست ما زالت موجودة كما العادة بما فيها الحلقة مثار الجدل.
"رموز" برنامج صوتي يشبه الكثير من البرامج الإذاعية التقليدية من حيث استحضار الشخصيات الراحلة وجعل مؤدٍ صوتي يتقمص الشخصية لتتحدث لنا عن نفسها ومراحل حياتها. وفي هذا الشكل الفني نوع من كسر رتابة التقديم التقليدي أو السرد المباشر، واختصار للمسافة مع المتلقي يجعل الشخصية أقرب إليه من خلال مخاطبته بضمير "الأنا" لا بضمير "الهو". ولا يخلو البرنامج ذاته من متعة حقيقية في معظم حلقاته التي قدمت شخصيات نبغت في مجالات العلوم والفنون والآداب. ولكن المشكلة كانت مع الشخصيات الإشكالية ذات الدور السياسي تحديداً.
قبل عام تقريباً حدثتنا "سيلينا"، وهي هنا ممثلة عن القائمين على البرنامج، عن برنامج "رموز" الذي كان قد انطلق للتو، وقالت في الحلقة الترويجية إنها ستستحضر شخصيات "مثيرة للجدل وتشعل بينها المعارك"، ووعدتنا بأن تروي "كل شخصية سيرتها وترد على اتهامات وجهت إليها"، ووعدت أيضاً بأن يكون التقديم "من منظار الحقيقة وليس كما يحلو لعشاق الشخصية أن يسمعوا"، مسلحة "بثقافة النقد المنطقي". وقبل كل حلقة يؤكد المؤدي الصوتي على ذلك بالعبارة اللازمة: "ارتكزت الحلقة إلى البحث في المصادر والمراجع الموثوق بها، وكتبت بضمير المتكلم لمقتضيات العمل الدرامي". هي إذاً جملة من التطمينات العديدة الصادرة عن شبكة عالية المهنية تدفع للوثوق بما ستسمعه.

فهل كانت "الجزيرة بودكاست" وفية للمعايير التي سنتها هي لنفسها ووعدتنا بالالتزام بها عند انطلاق البرنامج؟ سأحاول في الأسطر التالية سبر ذلك من خلال البرنامج نفسه، لا مما هو خارج عنه.


لا بد أولاً قبل الحكم من الاستماع إلى الحلقة كاملة وعدم الاكتفاء بالمقتطفات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، بل لا بد أيضاً من الاستماع لحلقة أخرى وأخرى من البرنامج ذاته، لمعرفة كيف تتم المعالجة والتقديم.

وفق الإطار الذي قيدت به نفسي في الحديث عن الحلقة قد لا يبدو من حقي طرح سؤال: كيف يصبح الإنسان رمزاً؟ وهل قاسم سليماني رمز؟ وإن كان رمزاً فلمن؟ ولكنها تبقى أسئلة مشروعة وتطرح اليوم مع الجدل الدائر بقوة.

غابت أولاً عن عنوان الحلقة الثنائية التي حرصت عليها القناة مع الشخصيات الجدلية، فكان العنوان "سليماني: رأس حربة إيران"، بعكس عناوين سابقة مثل: "حافظ الأسد: سورية المقاومة أم المتوحشة"، و"صدام حسين: قائد العراق العظيم أم الديكتاتور"، و"أشرف مروان: بطلٌ أم جاسوس"، و"ياسر عرفات: بين البندقية وغصن الزيتون".

يبدأ التسجيل الذي يمتد على 26 دقيقة بدقيقتين و33 ثانية يتحدث فيها سليماني مباشرة قبل أن ينجح "محمد"، وهو المؤدي الصوتي، باختطاف الميكروفون منه ليقول لنا إنه سيكون معنا في هذه الحلقة معيراً صوته لسليماني، ثم تذكّرنا سيلينا بأنها "ستكون معنا لنطرح ما نشاء من أسئلة وستكون صوتنا الصارخ وضميرنا وستنقل هواجسنا وانتقاداتنا"، وتطلب إلينا أخيراً أن "نتكل على شجاعتها". ثم يغيب الاثنان، ويعاود سليماني السيطرة على الميكروفون مواصلاً حديثه الذي انقطع عن حياته وطفولته وشبابه وأعماله البطولية ودفاعه عن الإسلام ودولة الحق والعدالة، دولة الولي الفقيه، مكملاً على هذا المنول 10 دقائق كاملة! وبعد ثقل غياب تستيقظ سيلينا لسبب ما، فتقول لسليماني الذي كان يتحدث عن طريق القدس، إن كلامه غير صحيح وإن القدس كانت حجة للتدخل في الدول العربية، بخطابية منفعلة لا تستند إلى معلومات أو أمثلة أو أرقام، ولا يتوقف سليماني عندها بالطبع يل يستمر في سرد مجريات "جهاده".

في حلقات مشابهة كان الأمر مختلفاً، ففي حلقة ياسر عرفات قامت المرافقة بلطم عرفات في الدقيقة 3.34 بعبارة قاسية قائلة: "وهنا بدأت زئبقيتك السياسية".

أما في حلقة حافظ الأسد فالمقاطعة الأولى كانت أكثر صدامية، حيث قالت له المرافقة "كنتم تريدون الانتقام من السنة ومن سنة المدن تحديداً"، مع أن الحديث لم يكن طائفياً ولم يكن فيه ما يستدعي السؤال مطلقاً.

قاطعت سيلينا سليماني 8 مرات طوال الحلقة، وفي كل مرة كانت تقاطع ببرود لا ينطبق مع وعدها لنا بأنها ستكون "صوتنا الصارخ وضميرنا وستنقل هواجسنا وانتقاداتنا"، بل إننا لم نشاهد شيئاً من شجاعتها التي طلبت منا أن نتكل عليها، وكانت تنهي مداخلتها بطرح التساؤل دون أي تعقيب على إجابة سليماني، الذي كان غالباً لا يجيب بل لا يسمع السؤال أصلاً، ويستمر في سرد سيرته العظيمة. بعكس الحال التي ظهرت عليها في حلقة حافظ الأسد حيث دخلت معه ثلاث مرات على الأقل في مشاحنة لفظية وملاسنة وأخذ ورد، اضطره في مرات عديدة إلى الرضوخ والسكوت مستسلماً. بل إنها ضحكت ساخرة من كلامه في الدقيقة 15، وأنهت الحلقة كاملة بما يناقض كلام الشخصية مؤكدة أنها جعلت وتجعل الشعب السوري يدفع الضريبة حتى الآن، الأمر الذي دفع بحافظ إلى الغضب والسخط في محاولة للدفاع عن نفسه.

وكانت المعلومة حاضرة دائماً في مقاطعاتها لحافظ، بعكس ما كانت عليه الحال في حلقة سليماني، حيث كانت مداخلاتها كلها دون معلومة، مجانية اتهامية دون طائل، متجاهلة عشرات وربما مئات التقارير الدولية التي تتحدث عن جرائم السيد سليماني بحق الشعبين السوري والعراقي على الأقل، إن لم نقل بحق شعوب المنطقة كلها.

وعندما تحدث سليماني عن طلبه المعونة من روسيا لمواجهة المتآمرين السوريين وعن نجاعة "الطائرات في قصف مواقع الخصوم"، خانت سيلينا شجاعتُها مجدداً، فلم تتذكر قصف المستشفيات والمدارس والبراميل المتفجرة، وعندما تحدث عن "معركة حلب"، مرّ الأمر مرور الكرام ولم تتذكر ممثلتنا صاحبة الصوت الصارخ مآسي أهالي حلب وتشريدهم، والباصات الخضراء التي اقتلعتهم من مدينتهم تحت وقع القذائف، مع أن ذكر حلب كان فرصة مناسبة جداً لإحراجه. وعندما وصل سليماني إلى لحظة "استشهاده"، مر الأمر بحزن مصحوباً بخلفيات حزينة ومقتطفات من التشييع والصلاة عليه، ولم تتذكر سيلينا أن سليماني كان في العراق في محاولة للتصدي للحراك الشعبي العرقي المتصاعد لا في مهمة لتحرير القدس. بل إن قمع لواء سليماني للحراك الشعبي الإيراني غاب عن الحلقة تماماً ولم يرد له أي ذكر.

وأخيراً في الدقيقة 25.35 تعاود سيلينا الاستيقاظ بعد غفوة لتخبرنا بأن هذه كانت قصة قاسم سليماني، وأن "الحكم الحقيقي العادل بحقه يبقى للتاريخ"!

ما هذا يا سيلينا؟ لقد خدعتِنا يا سيلينا، وغررت بنا، وبدلاً من المحاكمة التي أتينا لنشهدها لمجرم بحق الإنسانية، تركت له المجال ليحوّل الحلقة إلى حفل تكريم، وتراجع دورك من ممثل لجهة الادعاء، إلى صحافي غرّ وقع تحت سيطرة ضيفه فاكتفى بطرح الأسئلة المفسحة في المجال لسرد البطولات والإنجازات مع رسم ابتسامة ساذجة راضية!

تطرح حلقة سليماني، إذا ما أخذنا الأمر بحسن نية، مشكلة عميقة في إعداد البرنامج، وخاصة مع الشخصيات المثيرة للجدل، أو السياسية، والتي ربما كان من الأفضل عدم إدراجها ضمن "الرموز" أصلاً، فالسياسي ليس رمزاً، وشخصيات مثل صدام حسين وحافظ الأسد وقاسم سليماني وياسر عرفات لا ينبغي معالجتها كما عُولجت شخصيات مثل جبران وجلال الدين الرومي وأم كلثوم وستيف جوبز ونجيب محفوظ، بل لا ينبغي أن ترد هذه الشخصيات في سياق واحد.

تطرح حلقة سليماني تساؤلات عميقة عن ماهية البحث في "المصادر والمراجع الموثوق بها" الذي ارتكز عليه معدو الحلقة، كما قالوا في بدايتها، أي مراجع أو مصادر هذه التي لم تقدم إلا وجهاً واحداً للشخصية؟ وأين هي ""ثقافة النقد المنطقي" التي قيل إن الحلقة ستكون "مسلحة" بها؟

حلقة سليماني هي وجبة دسمة مثيرة للشهية والرضى لمحبي سليماني ومؤيديه ومناصريه، ولن يجدوا أي غضاضة في إعادة نشرها وتبني كل ما جاء فيها، وهي التي كان من المفترض أنها ستناول سليماني من "منظار الحقيقة وليس كما يحلو لعشاق الشخصية أن يسمعوا"، فما الذي يمكن أن يحلو لعشاق سليماني أن يسمعوه أكثر مما سمعوه بالفعل؟