مناوشات الأصمعي (1)

مناوشات الأصمعي (1)

10 مايو 2020
+ الخط -
تكفَّل الأصمعي بحفظ قدر كبير من الشِّعر، وكان حجة في النحو واللغة، أطلق عليه هارون الرشيد لقب "شيطان الشعر"، وقد أرسل في طلبه من بغداد، وألحقه ببلاطه في الرقة مدة يلتذّ بواسع معرفته وقوة حافظته.

وفي بلاط الرشيد، أراد الأصمعي أن يرسِّخ صورته الذهنية لا في نفس الرشيد فحسب، وإنما في نفوس من حوله كذلك، لا سيَّما أن منهم كبار العلماء ورجالات الضاد، ورسم لذلك خطة محكمة نفذها على نار هادئة وغير هادئة!

اختص الرشيد اليزيدي بتأديب ولده المأمون، وأسند إلى الكسائي تأديب الأمين، وبين المؤدبين منافسة محمومة على اكتساب ثقة أمير المؤمنين، ومن ذلك أنهما اجتمعا يومًا في مجلس، ودخل وقت صلاة الجهر؛ فقدموا الكسائي إمامًا وقرأ "قل يا أيها الكافرون" فأرْتِجَ عليه فيها، فلما سلَّم قال اليزيدي: إمام الكوفة أُرْتِجَ عليه في "قل يا أيها الكافرون"؟!

بعد سويعات، حانت صلاة الجهر اللاحقة؛ فتقدَّم اليزيدي وصلى بالنَّاس، فارْتَجَّ في سورة الحمد (الفاتحة)، ولمَّا سلَّم قال كأنه يعتذر (احفظ لسانك أن تقول فتُبتلى/ إن البلاء موكَّلٌ بالمنطق). في مشهد آخر للتنافس بين الرجلين، نرى اليزيدي يناقش صاحبه في مسألة، ثم يظهر كلامه على الكسائي، وتطربه نشوة الظفر حتى رمى بقلنسوته (عمامته) فرحًا بالغلبة، وقال: أنا أبو محمد! لم يستدرك على نفسه أنه في حضرة الخليفة.


سجلها الرشيد على اليزيدي قائلًا: "أتتكنَّى بحضرة أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟ لأدبُ الكسائي مع انقطاعه (خطأه) أحبّ إلينا من غلبك مع سوء أدبك"، وكان يجدر باليزيدي أن يمتثل نصيحة القحطاني في نونيته (وإذا غلبت الخصم لا تهزأ به/ فالعُجْبُ يُخمِدُ جمرة الإحسان). هذا جانب من المماحكة والمشاغبة الأدبية بين قطبين من أقطاب اللغة والنحو، ليس لمجرد أنهما يؤدبان ابني الخليفة، وإنما لاختلاف مرجعيتهما النحوية.

يمثل اليزيدي مدرسة البصريين، وقد أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وابن أبي إسحاق الحضرمي والخليل بن أحمد الفراهيدي، في حين أن الكسائي وتدٌ من أوتاد مدرسة الكوفيين وشيخ طريقتهم في عصره، وهذا ينضاف إلى التنافس على الصدارة في بلاط الرشيد.

والأصمعي بصري المولد والنشأة، خرج إلى مِربد البصرة يطلب اللغة من أفواه الأعراب، واستوثق من أدوات اللغة لا سيَّما الغريب منها، وأسعفته ذاكرته في الحفظ والاسترجاع، وفي زمن الرشيد انتقل إلى قِبلة العالم العربي، وسكن مدينة السلام مشاركًا في الحراك الأدبي والثقافي، لكن القدر رصد لبغداد ما لم تتوقعه.

سنة 155 هجرية، أمر المؤسس الحقيقي لدولة العباسيين، أبو جعفر المنصور ببناء عاصمة صيفية، تقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات، وتبعد نحو 200 كيلومتر شرق حلب، سُميِّت الرقة. لمَّا استلم الرشيد مقاليد الحكم، انتقل إلى الرقة واتخذها عاصمةً، وأرسل في طلب الأصمعي على دواب البريد.

بالعودة إلى مشهد التنافس بين اليزيدي والكسائي؛ فيُفترض نظريًا أن يناصر الأصمعي اليزيدي لسببين؛ الأول أنهما تخرَّجا في المدرسة ذاتها (مدرسة النحاة البصريين)، والثاني أنهما تتلمذا على يد الخليل، أما عمليًّا فإن الاستحواذ على عطايا الخليفة والتودد إليه لا يعرف المنطق، ومن ثَمَّ فلعلَّ الأصمعي ارتأى أن يُحرِج الكسائي كل من ينافسه مجلسَ الرشيد.

لم يقف كاتب هذه السطور على موقف بعينه بين اليزيدي والأصمعي، لا يعني ذلك أنه لم تجرِ بينهما محاورة أدبية، ونستدل على ذلك بأن الخليل قد سأل سيبويه والأصمعي وامتحنهما، وهما من تلامذته، وسأل الكسائي الفرَّاء وامتحنه وهو تلميذه النجيب. لكن قدوم الأصمعي إلى الرَّقَّة وملازمته الرشيد، جعل منه منافسًا قويًا للكسائي، وحاول غير مرة إحراج مؤدب المأمون؛ فسأله يومًا عن (طَيْف من الشيطان) وأحرجه، ثم تكررت المرات.

وذات يوم، سأل الرشيد عن بيت الراعي (قتلوا ابن عفان الخليفة مُحرِمًا/ ودعا فلم أرَ مثله مخذولا)؛ فقال الكسائي: كان قد أحرمَ بالحج؛ فضحك الأصمعي وتهانف (ضحك بسخرية)؛ فقال له الرشيد: ما عندك؟ قال: والله ما أحرم بالحج ولا أراد أنه دخل في شهرٍ حرام؛ فقال له الكسائي: ما هو إلا هذا، وإلا فما معنى الإحرام؟

قال الأصمعي: فخبِّرني عن قول عدي بن زيد (قتلوا كسرى بليلٍ مُحرِمًا/ فتولّى لم يمتَّع بكفن)، أيّ إحرام لكسرى؟ فقال الرشيد: فما المعنى؟ قال: يريد أن عثمان لم يأتِ شيئًا يوجب تحليل دمه، وكلُّ من لم يُحدثُ مثل هذا فهو في ذمَّة؛ فقال الرشيد: يا أصمعي! ما تُطاقُ في الشِّعر.

وكان من دأب الأصمعي أن يُعمِّي على مَنْ يسألهم؛ ففي مجلس جمعه بأبي عمر الجرميّ، قال الجرميّ "أنا أعلم النَّاس بالنَّحو"، فسكت الأصمعي عنه ساعة ثم قال: يا أبا عمر! كيف تُنشد (قد كُنَّ يُكْنِنَّ الوجوهَ تستُّرًا/ فالآن حين بَدَيْنَ للنُّظَّارِ)، كيف تقول بدين أو بدأن؟قال الجرمي: بدأن؛ فقال الأصمعي ساخرًا: أنتَ أعلم النَّاس بالنحو؟! إنما هو بَدَوْنَ؛ لأنه من بدا يبدو، أي ظهرن.

وفي مجلس أبي السَّمراء، اجتمع يومًا أبو عمرو الشيباني والأصمعي؛ فأنشد لمالك بن زُغْبة (بِضَرْبٍ كآذان الفِراءِ فُضولُه/ وطعنٍ كإيزاغ المخاض تَبورها)، ثم ضرب بيده إلى فروٍ كان بِقُربه، يُوهِمُ أن الشاعر أراد فروًا؛ فقال الشيباني "أراد فروًا"، وردَّ عليه الأصمعي متهكِّمًا "هذه روايتكم".

هذا على الصعيد الدنيوي، لكن ما وصل إلينا يُثبت أن الأصمعي كان ضنينًا بدينه، لا يأكل به ويبتذله لتصيُّد منصب أو جاه، يشهد له بذلك إبراهيم الحربي في قوله "كان أهل البصرة -يريد النحاة منهم- كلهم أصحاب أهواء إلا أربعة؛ أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، وحبيب بن يونس، والأصمعي".

ولم ينجُ أبو زكريا يحيى بن زياد الفرَّاء -تلميذ الكسائي- من أسئلة الأصمعي، لكنه صادف ما لم يتوقع؛ فسأله مرةً على جسر بغداد، وتفاصيل هذا اللقاء وغيره في اللقاء المقبل.

دلالات