تناتيش ونغابيش

تناتيش ونغابيش

08 ابريل 2020
+ الخط -
ـ قرأت حكاية بليغة في كتاب (مقهى الباب العالي) للكاتب التركي سرقان أوزبورن، الذي ترجمه المترجم السوري القدير عبد القادر عبد اللي، تحكي عن استدعاء السلطان العثماني سليمان القانوني لشيخ الإسلام في عهده أبو السعود أفندي، قبل سفر السلطان إلى حملته العسكرية على النمسا. كان السلطان السبعيني مريضاً ويشعر أنها ستكون حملته الأخيرة، وعندما مثل شيخ الإسلام في حضرته وضع السلطان بيده صندوقا صغيرا، وقال له: عندما أموت ادفن هذا الصندوق معي.

يقول سرقان أوزبورن: "ما حدث بعدها معروف لمتابعي التاريخ العثماني: جيش مؤلف من مئة ألف جندي انطلق في طريق زيغاتفار، وهناك أسلم السلطان روحه لبارئها، وبعد عودة الجنود من الحملة، اجتمع العلماء وتحدثوا عن وصية السلطان أكثر مما تحدثوا عن موته، فحسب الشريعة الإسلامية يحرم دفن شيئ مع الشخص عندما يموت، والتصرف على غير هذا الوجه لا يمكن تسميته بغير الوثنية، وحاشا للسلطان القانوني أن يكون وثنياً، دافع بعض علماء الحديث عن رغبة القانوني انطلاقاً من الحديث النبوي"يحشر المرء مع من يحب"، وذكّر بعض الفقهاء أن حضرة السلطان شهيد، ويجب أن لايعتبر الشهداء كالموتى، وبينما كان علماء التفسير يناقشون أن كلمة (ادفن) لم تكن أمراً بل وصية، وقال علماء الكلام إن كلمة صندوق هنا لاتعني الصندوق بل التابوت".

في وسط احتدام الجدال دخل خادم مكلف بضيافة العلماء، فذكرهم بتساؤل نسوه في غمرة المكلمة: "ترى ماذا يوجد بالصندوق؟"، وبعد نقاش طويل حول حكم فتح الصندوق قرروا فتحه، ليجدوا فيه كومة من الأوراق اتضح بعد قراءتها أنها جميع الفتاوى التي أخذها السلطان من شيخ الإسلام حول كل مافعله منذ جلوسه على العرش وحتى آخر يوم في حياته، وفي تلك اللحظة وقع شيخ الإسلام أبو السعود أفندي في حالة يأس شديد، وقرّب الصندوق منه، وبدأ ينظر في أوراقه ليجد بها فرمانات إعدام شيخ ملامي إسماعيل المعشوقي المعروف باسم الشيخ الولد، ومحيي الدين قرماني، وحمزة بالي، والفتاوى التي أصدرها حول جواز قتل اليزيديين، وفتواه بتحريم الجلوس على المقاهي، فخرجت من فمه هذه الكلمات: "آه ياسليمان، أنت أنقذت نفسك، حسنا، ماذا سنفعل نحن؟".


كالعادة، اتخذ الكثيرون من القصة وسيلة لتمجيد السلطان الذي رحل وهو مهموم بهول السؤال يوم الحساب، ولم يتوقف الكثيرون عند قيامه بتحويل فتاوى شيخ الإسلام إلى ركوبة لتبرير استبداده، متصوراً تصور أن استناده إلى تلك الفتاوى سيمنحه الحصانة الأبدية في الآخرة، بعد أن نالها بفضل بطشه في الدنيا.

ـ في المجلد الثاني من روايته الملحمية (الحرب والسلم) اهتم الروائي الروسي ليو تولستوي برصد ظاهرة الامتيازات التي يحصل عليها العسكريون في زمن السلم، والتي يدفع المجتمع بأكملها ثمنها، يقول تولستوي في السطور التي ترجمها سامي الدروبي: "يزعم ما ترويه التوراة أن سعادة الإنسان الأول قبل سقوطه كانت تقوم على فراغ وقته وخلوِّه من العمل، وحين سقط الإنسان بقي حب البطالة في نفسه، ولكن لعنة الرب ما تزال جاثمة على صدره، لا لأن عليه أن يكسب خبزه بعرق جبينه فحسب، بل أيضا لأن طبيعته النفسية تجعله لا يجد راحة النفس في الفراغ والبطالة، فكأن صوتاً خفياً يهتف قائلاً لنا إننا نكون آثمين خطاة إن لم نعمل، فإذا استطاع الإنسان أن يهتدي إلى حالة يحس فيها أنه مفيد وأنه يقوم بواجبه مع أنه لا يعمل، أمكنه أن يسترد ظرفاً من ظروف السعادة الأولى التي كان ينعم بها الإنسان الأول قبل سقوطه، وحالة البطالة الإجبارية التي لا يلام عليها صاحبها ولا يعدّ بسببها مقصراً، إنما هي الحالة التي تنعم بها طبقة اجتماعية بأسرها، أعني طبقة العسكريين، وهذا بعينه هو ما يجعل للسلك العسكري، وسوف يجعل للسلك العسكري فتنة خاصة".

ـ لم أقرأ في حياتي واقعة تعبر عن أزمة التدين الشكلي الذي فتق أمتنا وشعوبها، مثل تلك الواقعة التي رواها الجاحظ عن فاطمة بنت الحسين قالت: "دخلت علينا العامة الفسطاط بعد مقتل أبي وأنا جارية صغيرة وفي رجلي خلخالان من ذهب، فأخذ الرجل يفك الخلخالين من رجلي وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا عدو الله، قال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله، قالت: فلا تسلبني إذن، قال: أخاف أن يجيئ غيري فيأخذه". والغريب أن الجاحظ كان لديه من هدوء الأعصاب ما جعله يروي واقعة كهذه دون أن يعلق قائلاً: "عمركم شفتم أوسخ من ذلك يا قوم".

ـ يروي الكاتب العراقي هادي العلوي في كتابه الجميل (المستطرف الجديد) نقلاً عن (أمالي المفيد) أن "عبد الملك بن مروان خطب في مكة فوعظ الناس وأمرهم بتقوى الله، فقام إليه رجل من الحضور وقال: مهلا مهلا إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم أم نطيع أمركم بألسنتكم، فإن قلتم اقتدوا بسيرتنا فأين وكيف وما الحجة ومن النصير من الله في الاقتداء بسيرة الظلمة الذين أكلوا أموال الله دِولاً، وجعلوا عباد الله خِولاً، وإن قلتم أطيعوا أمرنا واقبلوا نصيحتنا فكيف ينصح غيره من يغش نفسه؟، أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عدالته؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها فعلام قلدناكم أزمّة أمورنا وحكّمناكم في دمائنا وأموالنا؟ أما علمتم أن فينا من هو أبصر بفنون العظات وأعرف بوجوه اللغات منكم؟ فتحلحلوا عنها لهم وإلا فاطلقوا عقالها وخلوا سبيلها يتدبر إليها الذين شردتموهم في البلاد ونقلتموهم في كل واد."، لتنتهي الحكاية بعبارة ستقرأها كثيراً كخاتمة لوقائع مشابهة ترد في كتب التراث العربي، عبارة تقول: "وهنا قام إليه أحد الحراس فأخذه، وكان ذلك آخر العهد به".

ـ لا أدري هل كنت تعلم أن أوبريت (الليلة الكبيرة) الخالد، وهو أجمل عمل غنائي عربي على الإطلاق من وجهة نظري، كان في الأساس مصنوعاً كإعلان لمنتجات شركة كبيرة في مصر خلال فترة الستينات، أو هذا ماقاله على الأقل الموسيقار الكبير كمال الطويل في حوار إذاعي قديم إستمعت إليه منذ أيام، وقال فيه بالنص: "أعترف وأقر إن هذه الصورة البديعة الجميلة لصلاح جاهين ماكنتش واعي ولا داري بعظمة هذه الصورة لإن أنا لما كنت باتخيل إنها معمولة لشركة دعاية لمنتجاتها طار المعنى الحقيقي لهذه الصورة الجميلة من ذهني، إلى أن فوجئت بشيئ عظيم جميل حلو مازال باقيا إلى اليوم وسيظل، قدمه الفنان الجميل سيد مكاوي، وبشكل بديع، وهذه الصورة اللي إتعملت مرة عرايس ومرة مسرح ومرة أغنية كلما أسمعها أقول له عفارم عليك يابو السيد والله أحسنت، وأقول لنفسي: كده برضه تضيع منك جوهرة".

ـ قبل سنوات طويلة من ظهور موضة "النيزك يا رب عشان نخلص"، وفي ظل أيام الزمن الجميل المتوهم التي لا يكف الكثيرون عن إعلان حنينهم إليها، احتفى عمنا العظيم بيرم التونسي باختراع القنبلة الذرية، وكتب هذه الأبيات التي سيقول لك تأملها الكثير عن زمانه وسيذكرك بزماننا:

"القنبلة الذرية مُش بطّاله
هيّه اللي تنفع في علاج الحاله
تنفع لنا نسوان على رجّاله
سُبحانه من أرشد عباده إليها

....

الحق بين الناس صَبَح في غُربَه
وبدِّلوا حكم القانون بالحَربَه
ماهوش كتير ينزل عليهم ضَربَه
والعَوجَه إيه غير الدمار يساويها

...

خلِّيها تنزل تِمسَح الحراميّه
والمرتشين والدون والشُضليّه
اللي عددهم صار متين في الميّه
في كل أمّه مش هنا وحديها

...

خلّوا القنابل عالبسيطة تنزل
تِنضّف الهمّ اللي فيها وتغسِل
لو باللي فيها الدنيا دي تِتزلزِل
ما تلقى فرخ غراب يبكي عليها".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.