صديقي الذي لم يفهم الفُولة

صديقي الذي لم يفهم الفُولة

29 ابريل 2020
+ الخط -
قيّض الله لصديقي المدرس أن يُقبل للعمل، في إحدى دول الخليج العربي، وبسمَ له الحظ أخيراً، فهو سيتخلص من أعبائه المالية، لذلك فرح كثيراً عندما شاهد اسمه، ضمن قوائم المقبولين للتدريس، في تلك الدولة، وبهذه المناسبة دعا أصدقاءه لتوديعهم في نادي الصحافيين، واستكمل الأوراق المطلوبة، وأصبح جاهزاً للسفر الموعود، في منتصف الشهر الثامن.

بعد تجمّع المدرسين المقبولين في مطار دمشق، أقلتهم الطائرة، وما إن نزل من الطائرة حتى لفحه هواء حار، كأنه آتٍ من فرن، وشعر بالرطوبة العالية، وتعرق جسمه، وفي المطار كان بانتظارهم مندوب من وزارة التربية، أخذهم في إحدى الحافلات إلى أحد الفنادق. كانت إقامتهم في الفندق ذي الثلاثة نجوم، كما قال صديقي، مريحة، من طعام وشراب فاخر، يُقدم في بوفيه مفتوح ليأخذ كل شخص كفايته، وكذلك الأسرّة والنظافة، ومسبح جميل على السطح. لكن ما لفت نظره كثرة مرتادي هذا الفندق من كلا الجنسين، ووجود صالات للرقص، حيث يرى صديقي الشباب مع بعض الفتيات يصعدون إلى غرف الفندق، لينزلوا بعد وقت، ويخرجوا من الفندق.

دهشته لمَا رأى جعلته يسأل زميله: ألم تجد وزارة التربية مكاناً أو فندقاً آخر مناسباً، لإقامة مدرسين ومدرسات، هم وهنّ على ملاك التربية. فكان يرد: هناك قصد من حجز هذا الفندق لنا، ليعرفوا أي طريق سيسلك كل واحد منا، فإذا انغمس في ما يراه هنا فسيُصار إلى عدم إكمال التعاقد معه، ولا سيما أننا لم نوقّع عقودنا بعد، ويتابع قائلاً: حذارِ يا زميلى من الاقتراب، ومن أن توسوس لك نفسك الأمّارة بالسوء، فعليك غضّ الطرف عمّا حولك.

بعد أيام من الإقامة والتجول في المدينة، ورؤية ناطحات السحاب، والشوارع المنظمة والمولات الضخمة، أدرك صديقي أن ما رآه في الفندق موجود في كل أرجاء المدينة، وهو ليس فخاً، وأن خوفه والفخ الذي تحدث عنه زميله، ومنعه من دخول صالة الديسكو لا مبرر له.
تم فرز صديقي والمدرسين جميعاً إلى المدارس التي حددتها الوزارة، وكان نصيبه في مدرسة في أقصى الشمال، حيث بدأ الدوام، وتعرف إلى كادر المدرسة من مدرسين وإداريين يمثلون أغلب أقطار الوطن العربي، وجد فيهم الطيبة والأخوة الصادقة، وكانوا ينصحونه ويقومون بترجمة لهجة أولياء الأمور الصعبة.
وذات يوم دخل غرفة المدرسين وكيل المدرسة، مع ولي أمر أحد الطلاب، وسأل عن ابنه سعيد فردّ عليه صديقي: مَن سعيد؟ إنه تعيس سلوكاً وتحصيلاً دراسياً، فرمقه الأب بانزعاج، وأخذ يتمتم مع الوكيل بكلمات غير مفهومة.
زميله المصري الجميل في الغرفة قال له بلهجته المصرية الجميلة: افهمِ الفولة. أخطأت في كلامك مع وليّ الأمر، كان يجب أن تقول له: ابنك ما شاء الله أحسنتم تربيته، وهو ذكي ولكن لا يتابع دروسه، بشكل جيد، وهكذا يمشي حالك، وكرر افهمِ الفولة!
أجابه صديقي ضاحكاً: أي فولة؟
هل الفولة تُفهم أم تؤكل؟
أنا أحب الفول بالطحينة أكثر من الحامض والزيت.
استأجر صديقي مع بعض زملائه شقة، ريثما تنتهي إجراءات الإقامة، ومن ثَمّ يستطيعون استقدام عائلاتهم، وأحد هؤلاء الزملاء كان ياسين، كثير الشكوى من الطقس السيئ والرطوبة العالية، ولا سيما في بداية العام الدراسي، لا يحتمل دلع وشغب الطلاب الذين كانوا يتفننون في ذلك. ومرةً أساء طالب الأدب، فردّ عليه ياسين، واحتدم الأمر، ولم يعد يحتمل الوضع، فقرر الاستقالة، بعد أن داوم نحو عشرين يوماً فقط، وعلى الرغم من محاولة زملائه في السكن، وآخرين ثنيه عن الاستقالة، أو على الأقل أن ينتظر حتى نهاية الفصل الأول لكيلا يتكبد مصاريف السفر، والعودة من جيبه، لكنه بقي مصراً على الاستقالة، وغادر إلى بلده.
أما صديقي فكان يحاول دائماً، أن يفهم الفولة، ولكن لم يستطع إلّا أن يكون كما قال له أحد زملائه الشُّوام: (نيئة على الخليقة).
كان الكادر الإداري، وعلى رأسهم المدير، يتفهم الصعوبات التي يعاني منها المدرسون، وما يلاقونه من الطلاب، ربما بسبب طبيعة المنطقة الجبلية، وكان في المدرسة طالب شيّبَ المدرسين، وسبّبَ لهم أمراضاً وعللاً، فخاطب المدير المنطقة التعليمية لإيجاد حل لمشكلته، فجاء الاختصاصي الاجتماعي واجتمع مع الطالب، ليخرج مذهولاً ليقول للمدرسين ساخراً: إن الطالب بحاجة إلى جعل بيئة المدرسة قريبة من بيئته، لأنه لا يشعر بالراحة، وغادر الاختصاصي المدرسة، وهو يشدد على مراعاة ظروف هذا الطالب المشاكس.
صديقي كان يعجب من قدرة بعض زملائه، على التحمل، والبقاء عشرات السنوات، في هذه البلاد متأقلمين، مع شغب الطلاب، والطقس الحار، ما دام هناك - كما يقولون - راتب كبير سيُوضع في حسابهم في نهاية الشهر، وبعضهم أضاع شبابه، ويقيم دون عائلته وحيداً، وكل همه أن يدّخر المال، ليحيا به حياة سعيدة في بلده، وكل سنة يقول إنها ستكون الأخيرة، ويبقى على هذا الأمل حتى يعود إلى بلده حشو الكفن.

صديقي يحمد الله بكرة وأصيلاً
إنه لم ولن يفهم الفولة
وإنه يحب الفول
دون فهمه بالطحينة أكثر، من الحامض والزيت.

دلالات