وسائل التباعد الاجتماعي

وسائل التباعد الاجتماعي

27 ابريل 2020
+ الخط -
"نحن أنذال هزل ومرتخون
شيوخ حسادون وبذيئو اللسان
لا أرى سوى الحمقاوات والحمقى
إن النهاية في واقع الأمر قد اقتربت،
كل شيء سيئ"
(أوستاس دوشان Eustche Deschamps)

أتساءل أعندما غنى أحد المغاربة مطلع قرننا أغنية "عام ألفين عام المحاين (المحن)"، هل استشرف المستقبل، أم أن الأمر كان محض صدفة؟ ثم لماذا بدأ تغير أنواع الرسوم المتحركة بمسلسل "أبطال الديجيتال"، ولماذا شارة البداية تقول لنا "في عالم غريب وقعنا في عالم الأحلام ضعنا"، ثم تتساءل هي نفسها "من أين الطريق، من أين الخروج؟؟؟".

نتذكر جيدا يوم أكلت فلة التفاحة المسمومة وأنقذها الفارس بقبلة حب، فهل من فارس يقبل حياتنا فتحيا من جديد كما حدث مع فلة؟ وهل من طريق للخروج، أم أن الأمر يزداد سوءاً، ونحن قاب قوسين أو أدنى من مجتمع أورويل؟

مرت السنوات الأولى من القرن الحالي ثقيلة، وبأحداث غيرت مجرى العالم ابتداء بـ(أحداث 11 سبتمبر) ومرورا بـ(غزو العراق) و(العدوان على غزة) وانتهاء بأزمة (2008)، وبحق تعتبر هذه البداية أسخن بداية في تاريخ البشرية، لقد تلاحقت الأحداث بشكل سريع ومخيف، فقد عصفت بالعالم رياح التغيير لتقتلع كل مهترئ وتهزم كل ضعيف، بما في ذلك ثقافات العالم الثالث التي باتت مشوهة، وبدأ الشباب الذي عايش فترة التسعينيات يتمنى لو يعود الزمن للوراء عوض أنه يتقدم؛ وخاصة إن راجع أغانيه المفضلة أو فتح ألبوم صوره وشغل شريط زفاف أخته في ذلك الوقت.


تمعن جيدا في هذا العالم وسترى أن كل الذي حققته البشرية من صعود ومن تقدم كان على حساب أجمل أيامك، وستتأكد أن هذا التقدم المزعوم لم يكن من أجل البشرية بل هو من أجل التقدم وحسب، ولإنتاج السلع وليس من أجل إشباع الطلب، بل الإنتاج من أجل الإنتاج فقط.

فيكف يكون غير ذلك وهناك ليومنا هذا من يموت جوعاً ومن يموت تخمة، وهناك أطنان من القمح والحليب ترمى ويتم إتلافها كي لا تؤثر على المعروض في السوق. إنه عالم غريب عجيب، متناقض إلى أبعد الحدود، مهترئ ومفكك وزادته وسائل (التواصل الاجتماعي) تفككاً واهتراءً، ولا عجب مما يحدث هذه الأيام من بحث مع إحدى الفتيات المصريات التي نصحت البنات بالدخول إلى موقع ما وعرض أنفسهن على الشباب لربح بعض الجنيهات، وطبعا من دون أن يكشفن إن أردن عن أنفسهن، ومن يهتم لهن أصلا، فالمهم بالنسبة للذئب لحم النعاج لا أصوافها. لقد أحيانا الله حتى رأينا البنات تسب الدين والملة وتنشر كلاماً بذيئاً باسم التحرر والخروج من ظلمة التخلف –هناك من يرى فيها تحرراً على فكرة-.

لقد أصبحت وسائل (التواصل الاجتماعي) تلعب دور اَلة الهدم. فحين اعتقد بعضهم أنها منصة لإبداء الرأي والتعبير الخ، صار الأحرار وبسبب فيسبوك مكشوفين، ومراقبين سواء من فرق متخصصة أو من أشخاص ليس لهم ضمير حي.

كما باتت تلعب دور الأسرة والمدرسة، فهاتان المؤسستان وعبر مراحل فقدتا البوصلة بفعل فاعل، وأضحت الأسرة/المنزل توفر للطفل المبيت وبعض العطف، بينما يكتفي المدرس بحراسته وتعذيبه بالالتزام والاحترام، فطفل اليوم المتحرر منذ الصغر يرى في الانصياع والطاعة للمدرس جريمة لا تغتفر.

بسبب وسائل التواصل وتوغل الثقافة الاستهلاكية، أصبح الكل خفيفاً لا تحتمل خفته، وحراً لا يبغي المسؤولية ويفر منها فرار المرء من الطاعون، ولهذا ظهرت علاقة جديدة من قبيل "البوي-فريند" وبات الزواج مسألة معقدة وفيها نظر.

وغدا الإيمان باللذة اللحظية ديناً، كل شيء يستهلك لفترة ثم يُرمى إلى مطرح النفايات، بما في ذلك الأشخاص طبعاً، والذين استعصوا وتشبثوا بحب المرء، أغلقت الطرق دونهم "حذف للصداقة وحظر على فيسبوك وعلى إنستغرام وعلى رقم الهاتف". يبدو أن إنسان اليوم لم يعد محبا للالتزام إنه -ببسبب النمط الاستهلاكي-، يرى في الالتزام تضييعا لفرص ربما يأتي بها المستقبل، فهو يرى صورا لفتيات أجمل من خطيبته وهي تشاهد مقاطع لشبان أوسم وأطول من خطيبها وهكذا، فلم عليها الالتزام؟ لهذا قد يحدث أن يعرض أحدهم خطبة فتاة فترفضه مع أنها تحبه، لم؟ إنها خائفة من الالتزام وتضييع الفرص.

شريك الحياة مجرد منتوج يمكن استبداله في حالة عدم الملاءمة أو انتهاء تاريخ الاستهلاك، والناس أصبحت تؤمن بضرورة التغيير السريع، التغير التغيير والركض من أجل التغيير، والبحث عن الجديد المناسب للسوق.

وسرعة تدفق السلع والأخبار والصور عبر وسائل الإعلام المختلفة، جعلت الإنسان لا يشعر بالراحة إلا وهو يجري، ويستمر الركض نحو اللذة وإرضاء الغرائز التي لا تشبع ولا تتوقف عن طلب المزيد، والتي من أجلها فتحت شركات العابرة للحدود أبوابها، ومن أجل تلبية طلبات المستهلك استعبد الإنسان وجرد من كرامته (العبودية الجديدة)، وتحت مسمى المنافسة الحرة، أغرقت الدول بالمنتجات الخارجية ومع كل سلعة تباع ثقافة تغرس، وهذا ما تفطن إليه مثلا الفرنسيون فمنعوا الكاتشاب في مطاعم المدارس لكونه ثقافة أميركية، وبمساعدة اَلة السحر "التلفاز"، سرقت الرأسمالية العقول وسحرتها بعروض بهلوانية للممثلين تحت مسمى الإعلانات، والملاحظ أن هذه الإعلانات تحاصرك في كل مكان، في المنزل في الشارع في الملعب في المقهى في المرحاض حتى، وما إن تبحث عن شيء بالصدفة حتى تجد هاتفك وقد مُلئ بإعلانات وعروض عنه، إنهم يريدون سعادتك عليك أن تفرح.

باختصار شديد لقد صارت الحياة مسرحية سمجة بعد أن دنس الإنسان بيديه كل ما هو جميل، وباتت السعادة التي طمح إليها وهو يلج عصر السرعة والتكنولوجيا كـ"جهمورية أفلاطون" وكسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

ويبدو أن لا فارس سيتجرأ على تقبيل هذه الحياة المشوهة، ولا مخرج من هذا المأزق، ولا مناص من مجتمع أورويل، فالنظام الصيني المستبد يستعد -منذ مدة طويلة- لتطويق مواطنيه بواسطة برنامج للتتبع والتقييم.