لعبة الاقتصاد... الشرطي والمتهم

لعبة الاقتصاد... الشرطي والمتهم

26 ابريل 2020
+ الخط -
أشهر قليلة من هيمنة الفيروس الأيديولوجيّ كما يوصّفه سلافوي جيجيك كانت كفيلة بتعرية العالم الذي نعرفه، وإظهاره بصورته الحقيقية. جاء هذا الغزو البيولوجيّ متسببًا بانهيار قطاعات اقتصاديّة وصحيّة في معظم دول العالم، كان أبرزها في الولايات المتحدة الأميركيّة، والتي ما زالت تنصّب نفسها شرطيًا قادرًا على قهر الشّعوب المعدمة وإخضاعها.

على سبيل المثال، يشكّل الخطاب الذي يقدمه ترامب الصورة الفجة والحقيقيّة لهذا القطب، وخاصّة عندما يقول لدول العالم الثالث أنتم مجبرون على دفع تكاليف الحماية، فنحن لا نقدّم خدمات الأمن بالمجان، وفي ذات الوقت يقول للحكومة العراقية، لا يمكن لأميركا الخروج من العراق وإذا ما أردتم خروجنا عليكم دفع ثمن القواعد العسكريّة الأميركيّة. في كلتا الحالتين، سواءً أردت الحماية أو رفضتها، أنت مجبر على الرضوخ لقواعد اللعب.

في فلسطين، يتم تطبيق هذه اللعبة الاقتصادية لكن بطريقة مختلفة، فالفلسطينيّ الذي يعيش في الضفة الغربية أو قطاع غزة عليه التخلّي عن شخصيته الوطنية لاكتساب امتيازات اقتصادية يمنحها الاحتلال كالتصاريح أو السّفر أو للعمل في الجانب المحتل من وطنه، ومن يقرر الخروج عن هذه اللعبة يدرج في قوائم المنع الأمني الممتلئة. كذلك على الفلسطيني الذي يعيش في الداخل الفلسطيني التخلي عن كيانه الأصلاني والقبول بمنظومة الحكم الاستعماريّ وتعريف نفسه كإسرائيلي من الدرجة الثانية يعيش في الوطن القومي اليهودي.


قبل عدة سنوات، كنت قد أجريت بحثًا ميدانيًا في قرية فلسطينية صغيرة تقع غرب رام الله، كانت هذه القرية تزخر بمظاهر المقاومة الشعبية، فلم تكن تمضي عدة أيام حتى نجد فيها مظاهرة أو حدثا وطنيا أو حدادا بسبب سقوط شهيد. اليوم يختلف المشهد كليًا، فبعدما قرر ضابط المنطقة إزالة المنع الأمني عن معظم سكانها، ومَنَحَ مجموعة منهم تصاريح العمل في المستوطنة القريبة، بدأت موجة المقاومة الشعبية بالخفوت حتّى تلاشت. في لعبة الشرطي والمتهم تلك، تتم دراسة أفعال الفلسطيني بعناية ودهاء، ومن ثمّ يقرّر الشرطي منح الامتياز أو المنع في سبيل تطويع تلك الضحية والسيطرة على انفعالاتها بما يتماشى ومصالح المنظومة الاستعمارية.

لم تختلف أساليب المستعمِر منذ بداءته وحتى الآن، ففي الأعوام التي تلت النكسة تم تشكيل لجنة من علماء الاقتصاد والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، وكانت هذه اللجنة مختصة بدراسة أنماط السلوك والقيم الفردية والجمعية والاستعدادات المسبقة لدى الفلسطينيين، بهدف تقديمها على شكل خطط مستقبلية لصنّاع القرار والساسة الصهاينة، تمكّنهم من احتواء الفلسطيني وتطويعه.

كفلسطينيين متهمين لا يمكننا الجزم بانتصار الشرطي في اللعبة، لأن قواعد اللعبة حُددت سلفًا دون استشارة الطرف الضّعيف، فذاك الشرطي قام باستغلال حالة العوز والحاجة التي يعاني منها المتهم، ثم بعد ذلك أعلن انتصاره الوهمي، لكن على من؟ على لا أحد.

في هذه الأيام وخلال انتشار الجائحة لم يعد الشرّطي شرطيًا، فقد قام بارتداء ملابس العصابات وقرر فرض قواعد جديدة للعبة، كان أول قراراته السماح للمتهمين بالمكوث في المستعمرة، خوفًا على سكّانها اليهود من فيروسات محتملة قادمة من بلاد المتهم. هذه المرة استعصم مجموعة من المتهمين وقرروا رفض اللعب، ولأن رجل العصابات لا يستطيع منح التصاريح للممنوعين أمنيًا، ولأن طبيعته الاستعمارية تحتّم عليه الحفاظ على الاقتصاد أولًا، قام بخلع الأسلاك الشائكة، وفَتَحَ عبّارات المياه في محاولة منه لإنقاذ اقتصاده المتهالك بالاعتماد على أسراب العمال الذين سلبهم مواردهم، وجعلهم محتاجين له باستمرار.

ضمن جميع القواعد، في حالة الشرطي أو رجل العصابة، المتهم أو الضحية، شكّل المستعمَر ساحة رمي الخردة التي يمكنك إعادة تدويرها متى تشاء، وكان قادرًا أو بالأحرى مجبرًا على احتواء أزمات المستعمِر، لكنه وفي كل مرّة بعد عودته متعبًا إلى منزله، كان يهمس في أذن زوجته كلامًا مستترًا لا يمكن للحاكم سماعه ويقول "سننتصر على قواعد اللعب يومًا ما".

96FFE120-9B1F-4104-B5B4-5EFC6FFF7D8F
عمر يحيى التميمي

باحث اجتماعي مهتم بدراسات ما بعد الاستعمار، حصل على اللقب الأول في تخصص علم الاجتماع بجامعة بيرزيت، والآن يستكمل ماجستير تخصص الدراسات الإسرائيلية في الجامعة ذاتها.

مدونات أخرى