سمر رمضاني في إدلب الخضراء (1)

سمر رمضاني في إدلب الخضراء (1)

24 ابريل 2020
+ الخط -
هل كان حافظ الأسد يحب إدلب؟ 

الرجال الذين يجتمعون في سهرة "الإمتاع والمؤانسة" الإسطنبولية كلهم قادمون من محافظة إدلب، عدا الصديق "أبو ماهر" الذي ينتمي إلى مدينة حماه.. وقد كان يسهر معنا قبل هذه الأيام أصدقاءُ من محافظات سورية أخرى أقاموا في إسطنبول زمناً قصيراً قبل سفرهم إلى "إزمير"، ثم عبورهم إلى اليونان، ومنها إلى البلاد التي تحترم فيها حقوقُ الإنسان والحيوان والحجارة والنباتات.. جمعتنا هنا الغربةُ القاسية إضافة إلى كوننا هاربين من جحيم حرب الإبادة التي يشنها على الشعب السوري الإيرانيون والروس والحشد الشعبي وعصائب أهل الحق وحزب الله وزينبيون وفاطميون بمساعدة ابن حافظ الأسد، إضافة إلى ما ألحقته تنظيمات داعش والنصرة وجند الأقصى وغيرها من أضرار بحق هذا الشعب الغلبان. 

 في رمضان هذه السنة حصل أمران في غاية الأهمية، أولهما أننا الآن نعيش منعزلين في بيوتنا، بسبب وباء كورونا، وقد استعضنا عن ذلك، كما تعلمون باللجوء إلى تقنية الاجتماع عبر الماسينجر، والأمر الثاني هو إدلب، إذ اقترح أبو إبراهيم أن نخصص سهرات هذا الشهر للحديث عن إدلب، فنتذكر أيامَنا الرمضانية الإدلبية، وأوضح أن هذا لن يُضايق أبا ماهر الحموي وزوجته، فالأجواء في المدن السورية الصغيرة - مثل إدلب وحماه - هي نفسها تقريباً.. والصائمون في العصر الحديث اعتادوا أن يستيقظوا للسحور على رنين ساعة الموبايل بدلاً من انتظار طبلة المسحر التي تحولت إلى مسألة فولكلورية، وصاروا يفطرون على أذان المغرب بتوقيت التلفزيون، وليس على صوت المدفع الذي كان يُحشى بالبارود والخرق وأشياء أخرى عديمة النفع ويجتمع حوله الرجال والشبان وكل واحد منهم ممسك بجرعة ماء وكعكة معروكة ليشرب ويأكل شيئاً قليلاً وهو في طريقه إلى البيت. 

قال كمال: 

- أنا مع اقتراح "أبو إبراهيم" بخصوص تركيز الحديث على إدلب، لكنْ سهراتْنا في العادة بتتناولْ الواقع الاجتماعي والسياسي والإنساني في سورية بشكل عام، يعني مو شرط تختلف الأيام الرمضانية عن غيرها من أيام السنة الأخرى.. وإذا نحنا منقيد حالنا بالحديث عن قصص وحكايات شهر رمضان وبَسّ، منكون خسرنا مواضيع هامة كتيرة بتحدث في أيام غير رمضانية. 

قال أبو محمد: أنا صار لي أكتر من سنتين بسهر معكم، ولما صرتوا تلتقوا على هادا المسنجر رحت اشتريت تلفون جديد شاشته كبيرة حتى إحسن إسهر معكم، وعلى فكرة، كل شي حكيتوه في هالسهرات كان كويس ومسلي ومفيد، منشان هيك أنا موافق عَ اللي قاله الأستاذ كمال، وكل رمضان وإنتوا سالمين. 

قال كمال: يا ريت تتحملوني شوية، أنا حابب نرتب الموضوع من بداياتُه لحتى نحافظ على عنصر "الإمتاع" وعنصر "المؤانسة" في سهراتنا. نحن تعودنا ننتقل من موضوع لموضوع بسلاسة، ومتلما بيقولوا في الكلام الدارج (منكون عَم نحكي في الطب منلاقي حالنا عم نحكي في جَزّ صوف الغنم، وزراعة البطاطا، وقلع الأضراس بدون بنج).. يعني، مثلاً: كنا، في وحدة من السهرات قبل رمضان كنا عم نحكي حكاية جرت في عهد حافظ الأسد، وفجأة قال أبو ماهر: 

- بدي أسألكم سؤال. صحيح متلما بيقولوا الناس، إنُّه حافظ الأسد كان يكره محافظة إدلب؟ 

قال أبو إبراهيم: شوف يا أبو ماهر، إذا بدنا نحكي جَدّ، حافظ الأسد كان يحبّ الشعب السوري ويكرهُه في آن واحد، وهالحُبّ والكراهية بيختلفوا من وقت لوقت، ومن محافظة لمحافظة تانية. 

قال أبو جهاد: بدك الصراحة يا أبو زاهر؟ أنا ما فهمت من كلامك ولا كلمة.

قال أبو ابراهيم: راح أبسط لك الفكرة. يا سيدي، كان حافظ الأسد يحبّ الشعب السوري لما بيكون هالشعب مذلول وخانع منصاع وراضي بحكمه. كنا نشوفُه عَ التلفزيون واقف على شرفة وزارة التربية في مدينة دمشق، منطقة الجسر الأبيض، وعم يشهد مسيرة تأييد مليونية.. سموها "مليونية" لأنه كانت القوى الأمنية تجبر مليون إنسان سوري على ترك بيوتهم وأشغالهم وأماكن دوامهم، والسير في الشوارع ضمن الظروف المناخية السائدة، برد أو حر أو مطر أو غبار، وإذا كان هالشي يصادف برمضان أو غير رمضان ما بتفرق معه.. وكانت المسيرة تستمر أربع أو خمس ساعات، وتلاقي الناس عم يمروا من تحت الشرفة وهني شايلين صور حافيييظ والأعلام واللافتات وعم يصيحوا بالروح بالدم نفديك يا حافظ، وهوي واقف على المنصة بجوار وزير التربية (ابن بلدنا السلقيني محمد نجيب السيد أحمد) وهوي في قمة الاستمتاع، وعم يفرفح بإيديه متل الطير القَلَّاب لما بيحطّ عَ السطح.. والشي الغريب اللي كنا كلياتنا نلاحظُه إنه حافظ، بهديكه الأيام، كان متجاوز الستين من عمره (تولد 1930) وبيمر عليه أربع أو خمس ساعات وما بيتعبوا رجليه، ولا بتضغط عليه مثانتُه وبتجبره على إنه يروح يتبول مثلاً.. 

قال كمال: إذا بتسمحوا لي أنا في عندي تعليق على كلام أبو إبراهيم. حافظ الأسد كان في عنده عقدة إلها علاقة بالإسلام، سببها إنه لما أعلن الدستور بعدما استولى ع الحكم في أول السبعينات طلعت ضده مظاهرات في حمص وحماه وحلب والشام لأنه أغفل من الدستور المادة اللي بتنصّ على إنه دين رئيس الجمهورية الإسلام. يوميتها حافظ اقتبس قول عادل إمام في إحدى مسرحياته (هُوَّ أنا يهمني؟)، وقال للناس: ليكن دين رئيس الجمهورية الإسلام، هُوّ أنا يهمني؟! ومن يومها صار عنده هوس بحضور المناسبات الدينية ليثبت للناس إنه هوي مو بس مسلم، كمان وَرِع! وبنفس الوقت كان يرسل رسالة للمجتمع السوري بيقول فيها: إنه صحيح أنا بعتقل وبعذب وبقتل ومعبي السجون والمعتقلات بعشرات الألوف من المواطنين السوريين بتهمة تأييدهم للتنظيمات الإسلامية، لكن أنا عندي طاقم من العلماء المحسوبين على الدين نفسه، بيحبوني، وبينافقوا لي، وبيخاطبوني كما لو أني راعي الإسلام والمسلمين في هذا الوطن المعطاء. 

قلت: في مرة من المرات كان في مناسبة دينية تقام في مسجد بني أمية الكبير، وخلال هالمناسبة ألقى حافظ على المشايخ خطبة خلت المشايخ المحسوبين عليه في غاية السرور والانبساط. قال لهم: أعداء هذا الوطن المتآمرين مع الإمبريالية والصهيونية بيزعموا زوراً وكذباً إني أنا معبي السجون معتقلين من المحسوبين على ديننا الإسلامي الحنيف، وإنه بس يدخل المواطن ع السجن ما عاد يطلع.. هالكلام يا إخوتي غير صحيح، أنا أتحداهم أن يثبتوا ذلك. طبعاً صفقوا له بحرارة، ولما انتهت المناسبة، وطلعوا من القاعة باتجاه المخرج، صار -على ما يبدو- خطأ في الإخراج التلفزيوني. كان حافظ طالع من باب المسجد والناس شافوا امرأة ختيارة جاية باتجاهه وقالت له: 

- يا أبو سليمان إبني عندك. بدي إبني. يا سيادة الرئيس جماعتك أخدوا إبني من عشر سنين ولهلق ما منعرف وينه.. الله وكيلك يا أبو سليمان ابني ما له علاقة بشي، بس لإنه بيصوم وبيصلي حبسوه!

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...