كيمياء وطن

كيمياء وطن

22 ابريل 2020
+ الخط -
إن ديمغرافيا الشعوب عادة ما تقوم على فسيفساء كونتها الأزمنه منذ مئات السنين، إن لم تكن من آلاف السنين، وصولا إلى حالها الآني، وقد مرّ من خلالها التركيب السكاني والهوية الوطنية إلى العديد من المعطيات والتغيرات والتحولات التي لعبت دورا جوهريا في تشكيلها وصياغتها بصورتها النهائية على أنها هي الهوية الوطنية والمكون الرئيس في بناء النسيج المجتمعي الذي تقوم على أساسه الدول، وما يمنحها من تعريف حقيقي للغتها وديانتها ومنابتها وأصولها النابعة من تاريخها الممتد حتى هذه اللحظة والضارب منذ الأزل لرسم ألوان تلك الخريطة وبعث الحياة فيها، وعادة ما يكون ذلك بيد مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية منها، وإقرار الشعب بمخرجاتها عن طريق حملهم وثيقة تثبت هويتهم الجغرافية والدينية على حد سواء، لتصبح ركيزة وشاهدا لذلك التوزيع الثقافي والديني والجغرافي الذي فرض عليه أو وضعته الأيام قدرا فيها، على أن يرتهن إليها رغما عنه.

بيد أن الاضطرابات الإقليمية خلال السنوات القليلة الماضية كشفت هشاشتنا في كل شيء، فمع أول هبة ريح انهارت دول، واكتشف أن ما بنيناه في السنوات الماضية لم يكن أكثر من بناء كرتوني سطحي لا يحتمل أقل الهزات، والأسوأ اكتشاف حجم الكراهية والعنف المتأصل في ثقافتنا العميقة وحجم قدرتنا المدهشة بأن نعيد إحياء أسوأ نزعات المذهبية المدمرة ونستلها لنبرر غريزة القتل المضاد، مستدعين أكثر ما نملك من قدرات كلامية وفتاوى وفضائيات وأموال لإشباع غرائز القتل.

نحن أكثر شعوب الأرض حديثاً واحتفالاً بالانتصارات رغم الهزائم التي تملأ تاريخنا الحديث والقديم، حتى شعاراتنا أكبر من الأوطان، نحول الهزيمة لنصر بمجرد جمل إنشائية، خبراء في قلب الحقائق وتزييف الواقع والماضي، غارقون في أحلام المستقبل بأوهام بعيدة تماماً عن واقع آخذ بالانهيار، لا نفعل شيئاً للمستقبل سوى التمني والكلام.


نحن أكثر شعوب الأرض حديثاً عن الوحدة، وأكثرها تشتتاً، أكثر شعوب الأرض حديثاً عن الديمقراطية ونحن غارقون في أشد أنواع الاستبداد، وأكثر شعوب الأرض حديثاً عن التسامح والمحبة والسلام ونحن أشدها كراهية، ونحن أكثر الشعوب حديثاً عن حقوق الإنسان، بينما لا يساوي الإنسان لدينا جناح بعوضة، حقوق الطفل والمرأة وكل هؤلاء يتم سحقها إذا استدعت مصلحة جهة أو حزب، وبعد كل حدث نكتشف أن كل منظومة القيم تلك ليست سوى مجموعة شعارات تسقط مع أول صراع وأول حكم وأول مصلحة لقبيلة سياسية.

وعليه قد آن الأوان لعقد اجتماعي جديد للمنطقة: إذ أصبح العقد الاجتماعي القديم والذي تقدم بموجبه الحكومات الخدمات والأمن في مقابل الحق في الحكم، بحكم المطلق عرضة للانتقاد والسخط والرفض التام لبقائه في جميع أنحاء المنطقة، بل وقد تم طمسه في تلك البلدان التي مزقتها أيدي الاستعمار الخفية والحرب المزعومة على الإرهاب والهجمة الشرسة على طالبي الحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية، والمطلوب الآن هو عقد اجتماعي يحدد العلاقة بين الحكومات ومواطنيها على أساس حكم شامل وفعال وشفاف ومسؤول بعيد كل البعد عن ذاك المتمثل في الشخص الواحد والحزب الواحد والطائفة الواحدة.

ويتعين على الحكومات ليس توفير الأمن والخدمات فحسب، ولكن أيضا منح مواطنيها دوراً رئيسياً في تحديد مستقبلهم ومشاركتهم في إدارة الشعب والدولة. وقد قُوضت شرعية الحكومات على المستوى الوطني في العديد من بلدان المنطقة التي تشهد حربا لا هوادة فيها على شعوبها تنتصر فيه على المدى القصير المنظور وتخسر خسرانا فيه على المدى الطويل والمتوسط، وسوف تحتاج المؤسسات الحاكمة والشعوب الى تأسيس مرحلة قائمة على المصالحة المجتمعية من الفرد والمجتمع والدولة لتشكيل هذا العقد الاجتماعي الحديث.

ليؤدي هذا العقد الاجتماعي بطبيعة الحال إلى نموذج حكم وطني وجديد وذلك بإنشاء حكم رشيد على طريقة حكومات محلية مزودة بإمكانيات جيدة وتتمتع بموارد أفضل حيث تتحمل مسؤولية سكانها ومواطنيها، وذلك كوسيلة لتعزيز وحدة الدول بدلاً من تقسيمها. ويجب أن يكون ذلك  أولوية من أجل تحقيق أفضل استيعاب لتنوعها العرقي والثقافي والديني الثري، وزيادة رغبة الناس في أن يكون لهم رأي في شؤونهم الخاصة وإعادة تأسيس شرعيتها وتعزيزها كدول على هذا الأساس والابتعاد عن النموذج المركزي للحكم، وأن تتجه نحو توفير المزيد من الاستقرار السياسي للحكومات وتوفير الأمن باحترافية قائمة على تصحيح عقيدة الأجهزة الأمنية، إنها أجهزة دولة وليست أجهزة نظام دون المساس بحقوق المواطنين وهذا ليس بالمهمة السهلة، ولكنه شرط أساسي لهزيمة التهديد الإرهابي ورص الصفوف من جديد بشكل سليم، وينبغي اقتلاع جذور الفساد، وتبسيط تقديم الخدمات الأساسية بجانب توفير الموارد الاقتصادية التي تمكنها من إدارة شؤونها الخاصة.

وهذا لا يقل أهمية عن إصلاح المؤسسات الوطنية عبر عملية تراكمية تقوم على تطوير وتقييم معايير الإصلاح والبناء، وسيتطلب كل ذلك قيادة شجاعة ومؤسسات قوية على الصعيد الوطني، من أجل تمكين وترسيخ الحكم على المستوى المحلي.

كما يتوجب على الحكومات في النهاية أيضا تمكين وتحفيز مشاركة المواطنين في حل المشكلات المدنية، ويعني هذا إعطاء مساحة للأنشطة المدنية والدينية بحرية تامة، وتشجيع وتمكين الجماعات المدنية والدينية المحلية وأصحاب المشاريع الاجتماعية البناءة ليكونوا منتجين ومبتكرين، بإدارة وتدريب هذه المهارات والمبادرات المدنية والدينية والحوارات العامة، التي تساعد على خلق مجتمعات أكثر مرونة وحيوية، والسماح لهم بلعب دور أكبر في الحياة الاقتصادية والعامة، وبناء قنوات اتصال بين الجماعات المدنية والدينية المحلية والحكومات لتوفير الاحتياجات الأساسية وتأدية دور حقيقي فعال من قبل هذا العقد الاجتماعي الجديد لدعم المجتمع والاقتصاد الوطني، وتمكين قدرتهم على انتهاج سبل وتخفيف حدة تلك الأعباء الثقيلة عن جهاز الدولة الثقيل لتحصل على مساعدة خلاقة من المجتمع المكوّن الرئيس لوجود الدولة والحكم.