صلاح جاهين العائد من البلاتوه

صلاح جاهين العائد من البلاتوه

22 ابريل 2020
+ الخط -
بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين على رحيل الشاعر والفنان المدهش والشامل صلاح جاهين، والذي رحل عن دنيانا في 21 إبريل 1986، أعيد نشر مقال ممتع كتبه عن تجربته مع التمثيل في فيلم (لا وقت للحب) مع المخرج صلاح أبو سيف، وكان وقت كتابة هذا المقال يعمل رئيساً لتحرير مجلة (صباح الخير). ظل المقال منسياً في بطون مجلدات المجلة، حتى صدور الأعمال الكاملة لصلاح جاهين والتي نشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب قبل سنوات في عدة أجزاء من بينها جزء يضم كتاباته الصحفية، وقد بذل الشاعر الكبير بهاء جاهين جهداً رائعاً في جمعها وتصنيفها. حمل المقال عنوان "أنا عائد من البلاتوه"، وإلى جوار أنه مقال مكتوب بأسلوب ممتع، فهو مهم لتسليط الضوء على تعامل صلاح جاهين مع مواهبه المتعددة وعلى علاقته بالعديد من مبدعي زمانه.

كتب صلاح جاهين قائلاً:

"أنا عائد من البلاتوه
مقدمة: ينقسم كاتب هذه السطور إلى ثلاثة أقسام: صلاح جاهين الرسام، وصلاح جاهين الشاعر، وصلاح جاهين الممثل السينمائى.. وقد عاش الثلاثة مدة طويلة معا، ولم يحدث أن انفصلوا لأى سبب كان، ولولا المشاجرات التى كانت تحدث من حين لآخر بين الرسام والشاعر حول الورق والأقلام، وهذه المهمة أو تلك، لاستطعنا أن نقول بأن حياتهم تشبه ما يسمى فى هذه الأيام بالتعايش السلمي، أما علاقة الأولين بثالثهما الممثل فكان يغلب عليها الحنان والعطف، فبالرغم من إيمانهما به كفنان، لم يكن لديهما دليل واحد على هذا الإيمان، كان يعود إليهما كل ليلة بقصص لا تنتهى عن أفلام سيعمل فيها، ونجوم قابلهم واستلطفوا دمه، ومخرجين أثنوا عليه، ومنتجين حدثوه عن أدوار يحلمون بها له.. وكان وديعا لا يضجُّ ولا يعجُّ، ولا يتشاجر على أوراق ولا أقلام ولا ملهمات، فأحبه زميلاه وتمنيا له كل خير.

وذات يوم، انتابت صلاح جاهين الممثل نوبة مفاجئة من المرح، وأتى إلى زميليه فوجدهما منكبين على العمل، فأزاح الأوراق من أمامهما فجأة وألقاها على الأرض، ووقف يرقص أمام عيونهما المندهشة قائلا «خلاص».. «خلاص إيه؟».. «ح أمثل قدام فاتن حمامة ورشدى أباظة بحالهم».. «مبروك».. وأراد الرسام والشاعر أن يعودا إلى العمل ولكنه قاطعهما قائلا «ألقاش معاكم مبلغ كده سلف؟».. «ليه؟».. «عاوز هدوم علشان التمثيل» وأعطياه ما أراد، وازدحم المنزل بالملابس الأنيقة التى لا صلاح جاهين الرسام ولا صلاح جاهين الشاعر يفهمان فيها شيئا.. «وده إيه ده يا نجم يا سينمائي».. «ده اسمه روب دى شامبر».. «وده إيه يا سيدى كمان؟»..«ده جيليه.. يعنى صديرى شيك».. "ودي بدلة للصبح.. ودي بدلة للسهرة ودي كوفية للبيت.. ودي... ودي.. وده".


وفى الصباح جمع صلاح جاهين الممثل ملابسه الأنيقة فى حقيبة وتأهب للخروج. وقبل أن يصل إلى الباب، حانت منه التفاتة إلى صلاح جاهين الشاعر، وإلى شبشبه المنزلي بالذات، فعاد أدراجه، ودون أن يستأذن انحنى وأخذ الشبشب، وأعجبته جلابية صلاح جاهين الرسام، فأخذها أيضا، ثم زاغت عينه على بدلة أحدهما الكحلى الجديدة فحملها دون كلمة، وكذلك حمل البلوفر الأحمر الكاروهات، وأخوه الرمادي، والبيجاما الزرقاء أم خط أبيض، وكل ما وقع عليه بصره من الملابس، سواء كانت على الشماعة أو على جسم زميليه ودن كلمة شكر وضع هذا وذاك فى صرة كبيرة وذهب إلى الاستديو.. تاركا خلفه صلاح جاهين الرسام وصلاح جاهين الشاعر مذهولين.

وحانت ساعة الخروج إلى العمل، فلم يخرجا، ودق التليفون مرارا فاعتذرا، وآخر مرة دق التليفون كان المتكلم هو فتحى غانم «إيه يا صلاح يا رسام.. انت مش جاي المجلة ولا إيه؟»..«لا مش جاي»..«ليه يا سيدي».. «كده».. «وصلاح جاهين الشاعر جاي ولاّ لأ».. «لأ»..«ليه؟»..«أصلنا بصراحة كده عريانين ملط ومش ح نقدر نخرج إلا لما ترجع هدومنا..» فقال فتحى غانم مقاطعا «يعني فى إجازة؟».. «يعنى» قالها صلاح جاهين الرسام وصلاح جاهين الشاعر.. وتحت اللحاف ناما، وفى دفئه أقاما، أياما وأياما، أربعة عشر تماما.

القسم الأول ــ يرويه صلاح جاهين الممثل:
أنا صلاح جاهين.. شفتاي ممتلئتان.. وكذلك باقي أجزائي.. الناس يقولون لي إنى أشبه هاردي.. وأنا أفضل أن أشبه أورسون ويلز (بعدما سمن وربرب وأصبح عال)، أحب أفلام الرعب والأفلام التى ممنوع الدخول فيها لأقل من 16 سنة.. وأكون فى منتهى سعادتي بعد أكلة سمك أو أي شىء آخر.. وهذا فى رأيي هو ما جعل مني نجما، فالنجم ليس هو هذا الشكل ذو الأبواز الخمسة الذى يرسمونه على زجاجة البيرة وفى السماء، ولكنه كوكب مستدير كروي كالكوكب الذى نعيش فوقه. كانت عائلتي تعارض فى اشتغالي بالتمثيل.. ولكني هربت منها وعشت مع صديقين لي، واحد رسام والآخر شاعر.. وهما لطيفان لأنهما أبلهان، لا يفهمان شيئا فى الحياة سوى عملهما، الذى لم يكن يعنيني فى كثيرا أو قليلا وإن كنت أضطر أحيانا إلى التظاهر أمامهما بالإعجاب بما يعرضانه علي.. وينطلي عليهما التظاهر، لأنه بارع، فأنا ممثل بالسليقة، وإن لم أكن حتى هذه اللحظة قد وضعت قدمي فى بلاتوه، أو أحرقت وجهي لمبة واحدة أو ذقت مرارة شاي الاستديوهات.

دخلت الاستديو مبهورا ولكنى مثلت دور النجم السينمائي فى الحال، فأعطيت ملابسي لأحدهم وطلبت منه أن يتولى أمرها، واعتذرت فى كسل عن تأخري ثم صحت «ماكياج!».. ولكن أحدا لم يجبني، والأدهى من ذلك، فقد سألوني عن معنى اعتذاري عن التأخير، مما نبهني إلى أني قد جئت مبكرا عن موعدي بساعتين.. ولم أجد أمامي إلا الطواف بالبلاتوه الذى سأعمل به، لكي أضيع الوقت، وأنا أتلاعب فى رأسي بكلمة «بلاتوه». ما معناها؟.. بلا.. توه.. بلا.. توه.. الأرجح أن معناها «بدون توهان» يعني أن أحدا لا يتوه فى هذا المكان.. ولكني عدت فاقتنعت بأن هذا الاسم ما هو إلا نوع من أسماء الأضداد، لأني ما كدت أقضي دقيقة فى هذا الذي «بدون توهان» حتى كنت قد تهت تماما ولم أستطع أن أعين مكاني. وأصبح المنقذ الوحيد لي فى هذه الورطة، هو البوصلة.. حوائط كثيرة أخذ العمال فى إقامتها من داخل حوائط أخرى خلف حوائط غيرها وأفهموني أن هذه هى الشقة التي سيتم فيها التصوير اليوم.. أحضروا خيشا ودقوه على خشب، وأوراقا قديمة وألصقوها عليه، ثم انهالوا على الحائط بالفرشاه، وسرعان ما استحال ذلك المكان المرقع بالخرق القديمة والأوراق الممزقة إلى شقة أنيقة تبهج الناظرين.. وعندما جذبني مساعد المخرج من ذراعي إلى غرفة الماكياج علمت أني أيضا يجب أن أستسلم لمن يدهنني كمثل هذه الحوائط.. لكى يخفي شكلي الحقيقي.. وآهو كله ديكور!

..دهنوني بلون بني فاتح «ميّه واحدة»، فلم يعد هناك فرق بين جبهتي ولحيتي، وأصبح وجهي يشبه إلى حد كبير وجوه العرائس والماريونيت، وأخذت أتوقع أن يبدأ الماكيير فى الخطوة التالية وهى تركيب الخيوط فى أنفي وجانبي رأسي وذراعي وقدمي، فلم يفعل، ولكن فكرتها ظلت فى رأسي وأنا فى طريقي إلى الكاميرا.. أنا الآن مثل الشاطر حسن فى مسرح العرائس.. وسيأتى واحد مثل صلاح السقا ويمسك بخيوطي ويحركني.. فكرة مضحكة فليس هناك من سيحركني، أنا الذى سأحرك نفسي، أنا صلاح السقا الخاص بنفسي، سأمسك خيوط نفسي وأحركها.

وقفت أمام المخرج صلاح أبوسيف ليتأملني.. نظر إلىَّ طويلا وقد أمال رأسه إلى ناحية ثم بربش عينيه وأمال رأسه إلى الناحية الأخرى ونظر إليّ.. ثم هز رأسه بمعنى «آهو مش بطال.. يمشي».. وشرحوا لي اللقطة، سأجلس هنا والتفت وأقول كذا.. ثم أقوم وأمشي إلى هذه النقطة قائلا كذا، ثم أطفئ النور قائلا كذا ثم أستدير عندما يقول لي رشدي أباظة كذا، وأضع على وجهي تعبير كذا، ثم أخلع الروب ديشامبر وأقول كذا ثم أدخل السرير وأنام قائلا كذا.. وأخذت أجمع خيوط العروسة ــ التي هي أنا ــ فى يدي إستعدادا لتحريكها الحركات المطلوبة.. وقال المخرج «اتفضل» فأخذت في شد الخيوط الواحد بعد الآخر.. فى تناسق وعبقرية فذة جبارة.. ولكن العروسة لم تتحرك الحركات المطلوبة.. يعنى أنا لم أتحرك الحركات المطلوبة!! ماذا حدث.. أريد أن أحرك ذراعي فيرتفع حاجبي أريد أن أرفع رأسي فأهز وسطي.. (طبعا هذه صيغة مبالغة لكى تصبح المقالة ظريفة، ولكن الذى حدث هو شىء مخفف من هذا القبيل.. بمعنى أني كنت أقصد أن أفعل أشياء بشكل معين ولكني أذهل عندما أرى النتيجة، وأنها ليست كما قصدت. ملحوظة أخيرة هذه هي طباع الفنانين، فعندما يحب أحدهم أن يبدو متواضعا، وأن يبدو أمينا لدرجة أنه ينقد نفسه، سرعان ما تجد هذا النقد يتحول إلى نوع من التخفيف ثم إلى نوع من التبرير ثم إلى نوع من الذى ستقرأه بعد هذا الكلام).

وصاح المخرج فى نهاية اللقطة: «ستوب.. هايل يا أستاذ.. رائع يا أستاذ.. عظيم يا أستاذ».

القسم الثانى ـ يرويه صلاح جاهين الرسام:
أنا صلاح جاهين الرسام الكاريكاتوري بمجلة صباح الخير.. أعتذر لحضرات القراء عن عدم ظهوري فى المجلة لمدة أسبوعين، وذلك لسبب أخجل من ذكره، ولكن حيث أنكم قراء طيبون ومننا وعلينا، وفالحكاية أننى أسكن مع اثنين من أصحابي، واحد شاعر والثانى نستطيع أن نقول عنه أنه ممثل، وإن كان فى ذلك شىء من سبق الحوادث، لأني حتى هذه اللحظة لم أره يقوم بأى دور سواء فى السينما أو على المسرح أو فى التليفزيون أو أى جهة أخرى.. فالحكاية أن هذا «الممثل» أخبرنا أنا وزميلي أنه سيمثل أمام فاتن حمامة ورشدى أباظة، ولذلك فهو سيستعير بعض ملابسنا.. وبعد خروجه تبين أنه أخذ جميع ملابسنا وأننا أصبحنا نصلح لافتتاح نادى من نوادى العُراة.. وقد اضطررنا لإنتظاره تحت اللحاف حتى يعود.. وعندما عاد فى المساء وجدناه مبتهجا أكثر من المعتاد. فطلبنا منه بعض الملابس حيث أن الدنيا شتاء ولابد أن نرتدي شيئا ما، ولكنه اعتذر فى رقة.. «متأسف.. كان من عينيا الاثنين»..«طيب البنطلون والبلوفر الرمادى»..«مش ممكن»..«ليه»..«راكور»..«إيه»..«راكور..راكور يا جاهل..الواحد لما يلبس حاجة ويتصور بها شوط واحد تبقى راكور... يعنى لازم تفضل فى الاستديو علشان الشوط اللى بعد الشوط اللى اتصور إذا كان فى نفس الموقف لازم يبقى بنفس الهدوم.. يعنى راكور.. فهمت؟»..«أيوه فهمت بس يعنى طيب الجلابية المقلمة»..«متأسف..راكور».. «طيب الفانلة الصوف»..«راكور»..«الكلسون لا مؤاخذة»..«راكور»..«طيب هات الـ..»..«أوه.. مش عاوز دوشة بقول كله راكور يعنى راكور.. إيه.. أبوظ لك الفيلم يعنى؟.. أطلع فى شوطّ لابس حاجة وبعد ثانية من نفس المشهد أطلع لابس حاجة ثانية.. عاوز الجمهور يكره السينما العربي؟.. عاوز الناس تقول مش معقول ده؟.. عاوز تضيع مستقبل صلاح أبوسيف اللى بنى اسمه فى كذا سنة بالدم والعرق والدموع.. علشان فانلتك يا أخى.. إيه؟.. انت ما عندكش ضمير.. ما عندكش مخ؟..».

القسم الثالث ــ يرويه صلاح جاهين الشاعر:
أنا صلاح جاهين الشاعر بآلام هائلة فى رأسي ومفاصلي.. أشعر بأن أسياخا من الحديد المحمي تنغرس فى بدني.. فقد أصبت بالبرد بعد أن فقدت ملابسي فى كارثة لا داعي لذكرها.. بسبب مشاعري الأخوية نحو إنسان لا يستحقها، ألا وهو الممثل صلاح جاهين.. ولكني ضعيف، أتأثر بالكلمات العاطفية.. وقد استطاع ذلك الشيطان أن يجعلنى أسامحه.. فقد وصف لى ليلة أمس مشاعره وهو يغادر البلاتوه بعد أن انتهى دوره فى الفيلم الذى يمثله. قال: «أحسست وأنا خارج بإحساس يمزقني.. كانت فاتن تتجه إلى حجرتها ولن أراها بعد الآن، رشدي أباظة يجمع أشياءه، وصلاح أبوسيف يجلس لا أدرى أين، فشعرت فى نفسي بجوع شديد وتمنيت أن آكل أى شىء».
...

ألف رحمة ونور على صلاح جاهين العظيم.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.