بداية النهايات ونهاية البدايات

بداية النهايات ونهاية البدايات

19 ابريل 2020
+ الخط -
1- منذ أن خطا نيل أمسترونغ خطوته الصغيرة لكنها الشهيرة على سطح القمر في 20 يوليو/ تموز 1969، صفق كل العالم، ورأى كل من شهد ذلك الحدث التاريخي أنه هو الذي يخطو تلك الخطوة وليس أرمسترونغ، أما من سمع بالخبر فلم يصدق وبقي على عادته يخرج في الليالي المقمرة ويتسمر أمام ذلك الكوكب الذي يسرق نوره من الشمس ليصف جمال حبيبته به ويقول لها إنك كالبدر.

منذ ذلك الحين انقسم العالم إلى قسمين: واحد آمن بما رأى وآخر لم يستسغ فكرة أن يصعد البشر إلى القمر ويفسدون سحر جماله، ولأنه ليس من رأى كمن سمع، فقد بدأ الذي رأى يعتقد أن تلك الخطوة هي بداية جدية للتخلص من أفكار الماضي وهي مناسبة للقطع مع الخوف من المجهول.


2- هذا الإنسان الكائن الهش الذي كانت ترعبه ظواهر الكون المختلفة بتلك الخطوة الصغيرة فك ألغاز الماضي، بل ظن أنه فك وإلى غير رجعة رابطه الوهمي مع التفكير الخرافي والأسطوري، فصار يسرع الخطو ويوسعه من أجل غزو الفضاء وامتلاكه بعدما ظن أنه جعل الأرض وما فيها في جيبه، فلم يعد شيء يثيره فيها، فدكها برجليه، ورفع سبابته إلى الأعلى متوعدا السماء وما فيها من كواكب أنه قادم إليها وأن المسألة لم تعد سوى مسألة وقت فقط.

لقد جعل نصب عينه هدفا ولن يثنيه أي شيء عما خطط له، قتل كل آلهته القديمة، وحطم المعابد التي كان بالأمس يأتيها باكيا شاكيا، طالبا الأمن والأمان مقدما لها القرابين والذبائح، لعلها وعسى، تقبلها وتكف عليه شر الكون وما فيه. منذ تلك الخطوة الشهيرة قلب المعادلة وقال أنا الإله ولا إله قبلي ولا بعدي، لم يعد يفكر ويحلل إلا بمنطق العلم وما سواه ليس في نظره إلا مجرد سراب في صحراء.

دخل في تحد محموم مع الطبيعة، وأراد تطويعها لمصلحته، فكانت هي تقاوم وترسم خريطة طريقها حسب نظام خاص مسطر لها منذ الأزل، معطية لكل ذي حق حقه في الوجود، والحياة ثم الموت، ثم تدور دورتها المعتادة محافظة على توازن كفتي الميزان. أما الإنسان الإله فلم يعد يقبل أن تحكمه بقوانينها.

3- رسم خريطة طريق خاصة به، وفعل أشياء تخطر على بال، وما لا يخطر على بال، حتى أنه بات يفكر في إلغاء هذا الموت من قاموسه وهزمه كما هزم آلهته، فبنى مختبراته وصار يخلط خلطاته، ويهجن ما لا يهجن من أجل كسب رهان إكسير الحياة. ولظهور بعض النتائج المشجعة في مجالات علمية مختلفة أخذ يمني النفس أنه سيهزم الطبيعة في أقرب وقت ويرغمها على رفع الراية البيضاء، والانصياع له، لكن المعادلة عادت وانقلبت من جديد، فصار هذا الإنسان الإله يطلب اللطف والرحمة، لقد انتصرت عليه الطبيعة وفرضت قوانينها الخاصة، بينما هرب البشر إلى منازلهم مثل الفئران حينما أخرجت له فقط سلاحا قديما، كان يظن أنه قضى عليه، فلم تفده كل أسلحته في شيء في مواجهة فيروس حقير، أصبح يوما بعد يوم وحشا مخيفا..

أمام هذه المعركة غير المتوقعة ألقى الإنسان علمه وتكنولوجيّته ورفع يديه إلى السماء، وهرع من جديد خائفا يصلي ويقدم القرابين لآلهته القديمة، ويتضرع قائلا لها اجعلي أمنا الطبيعة توقف الحرب، إني حقيقة أنا الأضعف في سلسلة الحياة.

إنها فعلا بداية النهايات ونهاية البدايات..
C07D6E37-277B-47B4-AAA7-B94B7E80CB00
الطاهر حمزاوي

صحافي وكاتب مغربي، يعمل في المجال الإعلامي وينشر في عدد من المنابر الوطنية والعربية.