عن أحلامنا المشوّهة

عن أحلامنا المشوّهة

18 ابريل 2020
+ الخط -
ما تفسير الغرابة والفوضى في أحلامنا؟ ما سر تلك الصور والأشكال والأمكنة والوجوه التي تمتد وتتقلّص وتظهر وتختفي فجأة؟ استيقظتُ اليوم بهذا السؤال الملّح. أمضيت الليل أسوق شاحنة تتحوّل إلى رافعة أو ربما العكس وأدخل عبرها في ما يشبه سلالم متحركة باتجاه نفق كأنه محطة قطار، فيتحول شكل الرافعة إلى بضاعة أو حمولة وأجدني واقفا بعدما كنت خلف المقود، ثم أجد نفسي في قاعة انتظار بطريق سيار، فتتحول القاعة إلى غرفة تقف في طرفها المقابل فتاة، أتجه نحو الفتاة، فأكتشف أني في جدال مع شخص يرتدي ما يشبه زيا أمنيا يحاول منعي من المرور، فأعود إلى الفتاة التي تلّف وجهها بوشاح، ولا أتذكر في أي لحظة تختفي الفتاة وأنتقل إلى "ديكور" غريب آخر لا أتذكره جيدا إلى أن أصحو قلقا مما جرى ومما لم يكتمل.

هذا الشكل من الأحلام ليس جديدا عليّ ولعلّه مألوف للقارئ أيضا، لكن لسبب ما -يستحق بحثا نفسيا منفصلا- كان هذا الحلم النقطة التي أفاضت الكأس. فجّر في داخلي فضولا معرفيا طفوليا لفهم السر وراء تلك الصور المتشظية والأماكن الغريبة والأشكال الغامضة التي تتخذها المساحات والوجوه في أحلامنا عموما. لماذا استحالت الشاحنة رافعة ولماذا لم يكن وجه الفتاة واضحا؟ وأي جزء في ذهني كان يمزّق الصور؟ ثم فكرت: أين يجد المرء جوابا لمثل هذه الأسئلة والتي هي في الحقيقة سؤال واحد دقيق: ما سر غرابة الأحلام؟ أنت محق عزيزي القارئ تجد الجواب عند مولانا سيغموند فرويد.

رحت أفتش في كتاب تفسير الأحلام The Interpretation of Dreams والذي نشره عالم النفس المؤثر عام 1900. ولأن لي سابق معرفة بأدبيات فرويد وكشوفاته العامة (مراتب العقل الثلاث، طبقات الشخصية، دور الرغبة والكبت..) لاهتمامي الخاص بعلم النفس، فقد بدأت البحث مباشرة عن أقرب شيء في كتابه للإجابة عن سؤالي الدقيق ذاك: ما سر غرابة الأحلام؟ قمت أفتش عن فقرة أو مبحث أو فصل ينورّني في قضية الصور الغريبة والمشوّهة. ووجدت فصلا باسم يطابق مبتغاي تقريبا بعنوان "تشوّه الأحلام" Distortion in Dreams (الفصل الرابع من الكتاب) وقد عجبت من فرويد ومني ومن هذا الجواب المخبأ لقرن ويزيد.


في هذا الفصل، يفسر فرويد تشوّه الأحلام ارتباطا بالرقابة. يرى أن داخل كل إنسان قوتين متعارضتين تشكلان معا الأحلام. قوتان أو سلطتان الواحدة منهما تُنشئ الرغبات التي يعبر عنها الحلم والثانية تمارس رقابة على هذه الرغبات المعبر عنها، متسببة في تشويه هذه الرغبات ومن ثم تشويه الأحلام. ولكن كيف تتمكن السلطة الثانية من ممارسة رقابتها على الأحلام؟ لشرح كيف يحصل ذلك، يذكر فرويد بتقسيمه الحلم إلى مستويين: ظاهر (مجتزأ، مقصوص) وكامن (كامل وتام). وبذلك يكون الحلم الظاهر هو ما نتذكره نحن من الحلم الكامن، أي تلك اللقطات الناجية من مقص الرقيب أي القوة الثانية. فكأن هذه القوة تتمركز في باب فاصل بين اللاوعي والوعي ولا تسمح بمرور (تذكر) الحلم كاملا، ما يتركنا أمام بقايا صور وأضغاث أحلام. وتبقى القصة الكاملة مخبأة في الحلم الكامن (المستوى الثاني). ففي هذا المستوى الثاني أي الحلم الكامن أو المستتر تعيش الرغبات بلا رادع، وبسبب صراع قوة الرغبة وقوة الرقابة عليها تعبر الرغبة في الحلم عن نفسها بشكل مضطرب وغريب في المستوى الظاهر.

الطبيعة المشوّهة للأحلام هي إذن نتيجة المعركة بين قوة الرغبة وقوة الرقابة الممارسة عليها. ولهذا قال فرويد إن الأحلام هي الطريق الملكي إلى اللاوعي بما أنها تنبع من تلك المنطقة الكامنة الحرة من الرقابة التي لا نعرف منها غير الحلم الظاهر أي مشاهد مجتزأة ومنقوصة. الجديد إذن أنه حتى وأنت نائم فالرقيب الذاتي لا ينام، يضعف لكن لا يلين.

في الفصل الخامس، يتحدث فرويد عن "مصادر ومواد الأحلام" وقراءتي لهذا الفصل جاءت من باب "إشباع" الفضول. وقبل أن أتقاسم معك التحليل الشيّق لفرويد لمصادر الأحلام (بغض النظر على الاعتراضات القائمة على خلاصاته ماضيا وحاضرا)، فلا بد من الإشارة إلى أن قراءة فرويد تضعك أمام ذائقة أدبية أنيقة وذات شغوفة بالفن والجمال حيث تجد في الكتاب مقارنات بين حالات تحليلية وأعمال فنية عظيمة أو أحداث واستشهادات من روايات وأشعار وملاحم.

عودة لمصادر الأحلام، فهي تتعدد وفقاً لفرويد ما بين انطباعات وأحاسيس بعضها حديث العهد وآخر ضارب في القدم وموصول برغبات طفولية دفينة. وامتزاج هذه الرغبات الطفولية مع الرغبات الطارئة أو الحديثة العهد يفسر بدوره الطبيعة المعقدة والمشوهة للأحلام. وعملية التشويه هاته تحصل خلال اشتغال الحلم أو عمل الحلم (Dream-work) عبر أربع عمليات متوالية وهي التكثيف (Condensation) فالإزاحة (Displacement) فالترميز (Representation) فالمراجعة الثانوية (Secondary revision) وهي كلها واردة في الفصل الخامس.

وهذه العمليات تشبه مناورات حربية تحاول بها الرغبات المكبوتة التعبير عن نفسها في مواجهة مقص الرقيب. فالتكثيف يعني تكثيف عدة صور أو عناصر في عنصر واحد، وبالإزاحة يقصد فرويد تغيير أفكار بأخرى وصور بأخرى أي عمليات مبادلة لخداع الرقيب الواقف على باب الوعي. أما الترميز أو التمثيل فيعني به فرويد تحويل الأفكار إلى تعبيرات بصرية. أما المرحلة الأخيرة فهي التحرير والمراجعة والتدقيق، من قبيل تدقيق المقالات قبل نشرها أو مراجعة ورقة الامتحان قبل تسليمها، فكأن تلك القوة الكامنة، قوة الرغبة المتفجرة في أعماق اللاوعي، تتأكد ختاما من أن العمل الفني الذي أنجزته قادر على التسلل إليك في الصباح وأنت تشرب قهوتك وتتذكر مغامرات الليل رغم ضغط الرقيب، ويبقى عليك إعادة تركيب المشاهد وملء الفراغ لفهم تلك الرسائل المشفرة..

عصام واعيس