الاحتلال وكابوس كورونا في القدس

الاحتلال وكابوس كورونا في القدس

18 ابريل 2020
+ الخط -
يشكل انتشار فيروس كورونا (covid 19) أبرز تحديات العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وهو واقع أعلنته دول عديدة في العالم، خاصة الدول الكبرى منها، وفيما يبلغ الوباء ذروته في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، ويحصد فيهما آلاف الضحايا يوميًا، بدأت مؤشرات الإصابة به تتصاعد في مناطق أخرى. وفي الوقت الذي تفشل فيه دولٌ تمتلك إمكانات ضخمة وقطاعات صحية متقدمة، يغدو انتشار الوباء في المناطق التي تعاني الفقر أو تراجع العناية الصحية كارثة بكل المقاييس، فكيف إن اجتمعت هذه الكوارث مع كارثة الاحتلال الإسرائيلي في القدس، ما يجعل انتشار الوباء في المدينة كابوسًا على الصعد الإنسانية والصحية، والديموغرافية حتى، في إطار معركة لا يوفر الاحتلال فيها استخدام أي أداة أو أحداثٍ طارئة.

بدأت الاستعدادات في القدس المحتلة لمواجهة الوباء منذ تزايد أعداد المصابين في دولة الاحتلال، إذ عملت الأطر المقدسية على التحضير لمواجهته، عبر حملات التوعية والتعقيم. فمع بداية شهر آذار/ مارس أعلن اتحاد أولياء أمور طلاب المدارس والقوى الوطنية والإسلامية، تعليق الدوام في مدارس القدس كافة. وفي سياق تطبيق الإجراءات الوقائية للحد من انتشار الفيروس، نظم شبان مقدسيون في 16/3/2020 حملة لتعقيم شوارع البلدة القديمة، ولكن سلطات الاحتلال واجهت هذه المبادرات بقمع مباشر، فأبعدت أربعة مقدسيين عن البلدة القديمة مدة أسبوعين، بحجة "خرق السيادة الإسرائيلية في القدس لتوزيعهم نشرات توعوية عن فيروس كورونا"، وعلى الرغم من رفض الاحتلال هذه المبادرات، شهدت القدس في سياق مواجهتها تداعيات الفايروس العديد من المبادرات في مناطق سلوان وجبل المكبر، نظمتها جمعيات وأطرٌ فلسطينية، عُرفت بـ"التجمع المقدسي لمواجهة الكورونا".

ومع فعالية هذه المبادرات وأهمية الدور الذاتي للتخفيف من انتشار الفايروس، لا يمكن اختزال مواجهته بها فقط، إذ تتطلب مواجهته استنفارًا طبيًا على أعلى المستويات، إضافةً إلى تأمين المستلزمات الطبية وأجهزة التنفس الصناعي، في حال تصاعد الانتشار، وقد وضعت خطة للطوارئ في القدس، شملت تكاليف شراء معدّات طبية وتحسين البنى التحتية، وتوفير الملابس الواقية للأطباء وللكوادر الطبية، بتكلفة تصل إلى سبعة ملايين دولار أميركي، تبرعت بثلاثة ملايين منها كلٌ من ألمانيا والنرويج.

وتعاني مشافي القدس من شحّ في التمويل، خاصة بعد منع ترامب تمويلًا كانت تقدمه الإدارة الأميركية لها، وتراكم الديون المتوجبة عليها، لشركات توريد الأدوية والمستلزمات الطبية، ما يخفض جهوزيتها لمواجهة انتشار كورونا في المدينة، فبحسب المعطيات يوجد في القدس 26 جهازًا للتنفس الاصطناعي، وهو رقم ضئيلٌ جدًا في حال انتشار المرض في المدينة؛ إذ ستصل الحاجة إلى مئات أو آلاف الأجهزة، وإن عدم توفر هذه الأجهزة سيؤدي إلى وفاة العشرات من الحالات كان يمكن إنقاذها عبرها.

لا تقف هذه الإشكاليات عند الأجهزة والمستلزمات فقط، ففي مشافي القدس يعمل نحو ثمانمئة طبيب وممرّض وفني، يأتون إلى القدس يوميًا من مختلف المناطق الفلسطينية، وفي حال فرض الاحتلال قيودًا على هؤلاء، أو توجه إلى إغلاق كامل لحركة التنقل ستقع المشافي الفلسطينية في مأزقٍ كبير، إضافةً إلى أن انتشار المرض سيحتم على هذه الفرق الطبية البقاء في القدس، ما يرفع من الأعباء التي تتكبدها المشافي، في سياق تأمين المساكن المناسبة، لتفادي نقل هذه الكوادر المرض إلى مناطقهم وأسرهم.

ومع كتابة هذا المقال بلغ عدد المصابين في القدس المحتلة بالفايروس نحو 102 من مختلف الأحياء المقدسية، مع إصابة 45 شخصًا في بلدة سلوان، الأقرب إلى المسجد الأقصى المبارك، ولكن هذه الأرقام تنذر بتفجرٍ كبير للأوضاع، ففي بداية شهر نيسان/ إبريل كشفت وسائل إعلام عبرية أن سلطات الاحتلال تركت الفلسطينيين في المدينة يواجهون مصيرهم بمفردهم في ظل تفشي كورونا، وبحسب المعلومات لا تطبق سلطات الاحتلال الإجراءات نفسها التي تقوم بتنفيذها في البؤر والأحياء الاستيطانية في القدس وباقي المناطق الفلسطينية المحتلة، وأشارت وسائل الإعلام هذه إلى تقيّد غالبية الفلسطينيين في القدس بتعليمات الوقاية من الفيروس، لكن هناك ضبابية حول أعداد الإصابات الفعلية في القدس المحتلة، إذ تتكتم سلطات الاحتلال على الإحصائيات الدقيقة لأعداد المصابين، وتمتنع عن تقديم أي معطيات بهذا الشأن يمكن أن تفيد الجهات الفلسطينية، إضافةً إلى استمرار اعتداءاتها بحق المقدسيين، من اعتقالهم واقتحام الأحياء المقدسية، في تناقض صارخ مع تطبيق إجراءات تقييد الحركة، وهو ما سيؤدي حكمًا إلى تصاعد إمكانية إصابة المقدسيين بالفيروس.

ويُطرح في هذه الحال سؤال بدهي، هل ما تقوم به سلطات الاحتلال في القدس المحتلة خطة مرسومة لترك الفلسطينيين في القدس ضحايا لهذا الوباء، وهنا يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات لما يجري في القدس المحتلة:

  • الأول، مع تصاعد أعداد الوفيات في دولة الاحتلال، واستمرار تسجيل مئات الإصابات يوميًا، لا تريد سلطات الاحتلال تحميل نفسها أعباء أخرى، فتعمل على التغاضي عن الحالة الصحية للفلسطينيين في المدينة المحتلة، ومما يشير إلى هذا الخيار، إعلان جهاز الموساد الإسرائيلي عن عمليات قرصنة للحصول على الفحوص الطبية الخاصة بالفيروس، أو السيطرة على مستلزمات طبية، ما يُشير إلى ضعفٍ محتمل في الاستعدادات الصحية لدى الاحتلال.
  • الثاني، محاولة الاحتلال الاستفادة من تفشي الوباء، بحدوده الدنيا، إذ إن انتشار الفيروس في القدس بشكلٍ كبير سيؤثر في مصالح الاحتلال على المدى البعيد، خاصة مع وجود العديد من البؤر الاستيطانية في القدس المحتلة، ما يعيد دفع الاحتلال إلى الالتفات للحالة الصحية للمقدسيين، ولكن عندما تبدأ بالتأثير عليها.
  • الثالث، عدم تحمل الاحتلال أي مسؤولية لما يجري في القدس المحتلة، وتحميل الكلفة المادية والبشرية لأي خسائر محتملة للسلطة الفلسطينية، أو للجهات الدولية الأخرى، في سياق تنصلها من أي عبء على قطاعها الصحي في هذه المرحلة على أقل تقدير.

ومع أن أي احتمال من هذه الثلاثة يمكن أن يتغير في ظل التغيرات الكبرى لحجم انتشار الفيروس، أو لردة الفعل الفلسطينية تجاه الاحتلال، تعمل سلطات الاحتلال على رفع جهوزيتها في مواجهته، ففي 8/4/2020 قامت طواقم عسكرية وطبية تابعة للاحتلال بتدريبات خاصة تتعلق بمنع تفشي فيروس كورونا بين المستوطنين، وقد أقامتها على أرض مطار قلنديا شمال القدس المحتلة. وتقوم بضرب جهوزية المجتمع الفلسطيني في مواجهة الوباء، من خلال استهداف أي محاولة فلسطينية لاحتواء الفيروس، ففي 14/4/2020 اقتحمت قوات الاحتلال المركز الطبي في بلدة سلوان، وهو المركز الذي أعدته لجنة الطوارئ في البلدة، للتعامل مع حالات الاشتباه بالفيروس، وتقديم الدعم الصحي الأولي، قبل نقل الحالات إلى المشافي.

وعلى الرغم من ضعف الإمكانات في مواجهة هذا التفشي، وقيام المؤسسات المقدسية المختلفة ببث الوعي وتنظيم عملية الشراء من المحال التجارية، وتعقيم منازل المصابين والمحال التجارية والعامة وغير ذلك، فإن مواجهة الفيروس تحتاج إلى تسخير مزيد من الإمكانات البشرية والمادية، إذ إن تفاقم الإصابات في القدس المحتلة، في ظل ضعف الإمكانات المادية والطبية، سينعكس على مستقبل المدينة من الناحية السكانية والديموغرافية، ومعركة مواجهة الفيروس، يستبطن واحدة من محطات مواجهة الاحتلال.

ومع تركيز المقال على الواقع الصحي وما يريده الاحتلال من كورونا، تحتاج المدينة إلى أكبر قدرٍ ممكن من الدعم في هذه المرحلة، وعلى الصعد كافة، ومنها واقع المقدسيين الاقتصادي والمعيشي، ما يجعل سهم دعم المقدسيين اليوم هو هدف رئيس لكل غيور ومحب للقدس وفلسطين.

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".