صوت العرب في لندن (2/2)

صوت العرب في لندن (2/2)

15 ابريل 2020
+ الخط -
بعد انسحاب الوفد المصري من مقابلة وزير الدولة البريطانية للشئون الخارجية مايكل ستيوارت، قال حافظ إسماعيل لسيد مرعي إنه ربما أخطأ حين انفعل أكثر من اللازم على الوزير، وهو ما كان سيد مرعي يشعر به خصوصاً أنه أفسد الهدف الرئيسي من المهمة، لكنه تلقى في نفس اليوم اتصالاً من صديقه الكاتب المصري علي أمين الذي كان يعيش في لندن وقتها هرباً من ضغوط المخابرات العامة التي كانت قد ألقت القبض على توأمه مصطفى أمين بتهمة الجاسوسية لمصلحة الولايات المتحدة، وفوجئ سيد مرعي بأن علي أمين يعرف تفاصيل ما جرى في مكتب الوزير، وأنه أخذ يهنئه على ما فعله، ويؤكد أن ما حدث مع الوزير سيكون سبباً في نجاح مهمته، وحين طلب سيد مرعي من علي أمين أن يزوره في فندقه ليتحدثا بشكل مفصل، تحرج علي خوفاً من أن تصل أخبار المقابلة إلى عبد الناصر فيضر بذلك صديقه حين يعود إلى مصر، لكن سيد مرعي أصر على رؤية علي أمين، وحين جاء علي أمين لزيارة صديقه فوجئ سيد بأن علي يخبره أن رئيس وزراء بريطانيا هارولد ويلسون سيستقبل الوفد المصري في الغد، لكنه قال له إن ما يقوله ليس معلومات بل توقعات من خلال معرفته بالتفكير السياسي البريطاني، ولذلك لم يقتنع سيد مرعي بكلامه.

بعد نصف ساعة مما قاله علي أمين، فوجئ سيد مرعي باتصال من حافظ إسماعيل يخبره أن هارولد ويلسون رئيس وزراء بريطانيا اتصل به وحدد موعداً لاستقبال الوفد، وأنه تأكد أن الدعوة موجهة لجميع أعضاء الوفد المصري بما فيهم أحمد سعيد، وفي اليوم التالي ذهب الوفد إلى مقر رئاسة الوزراء في داوننج ستريت، ليفاجأ الجميع بأن هارولد ويلسون أحسن استقبال الوفد، وبدأ الحديث مع سيد مرعي قائلاً إنه سيوجه حديثه إليه ومعه فقط، في محاولة منه لمحو آثار ما فعله وزيره بالأمس، وبعد أن ضحك أعضاء الوفد وانكسر حاجز التوتر، استأذن ويلسون من سيد مرعي أن يوجه كلمة سريعة إلى "مستر أحمد سعيد"، مضيفاً: "لكن حديثي مع مستر أحمد سعيد سيكون بسيطا ولن يكون من ملف المخابرات كما فعل معكم مايكل ستيورات، ونقطتي هي لماذا يا مستر أحمد لا تضاعف مدة الموسيقى والأغاني في محطة صوت العرب أو لماذا لا تجعل الإرسال كله موسيقى وأغاني، إنني أعدك بأنكم إذا فعلتم ذلك، فلن تكون بيننا وبينكم أي مشكلة أو خصومة".

انتهز سيد مرعي فرصة تهدئة الأجواء لكي يخرج من مأزق أحمد سعيد بالكامل، فقال لهارولد ويلسون إن ما يذيعه أحمد سعيد عبر ميكروفون صوت العرب ليس دعاية شخص وإنما دعاية دولة، وأنه يؤدي مهمة ولا يعبر فيما يقوله عن نفسه، لكنه يرى أن أحمد سعيد "ربما يبالغ أو يتزيد في أدائه لهذه المهمة"، لأن أفكاره عن بريطانيا غير مكتملة وغير مشجعة، ولذلك فقد فكرت الدولة المصرية أنه ربما كانت أحسن طريقة لتحسين فكرة أحمد سعيد عن بريطانيا هو أن يجيئ عضواً في الوفد ليجلس مع المسئولين البريطانيين ويزور البرلمان ويتعرف على الوجه الآخر لبريطانيا، وهو ما تغافلت عنه الصحف البريطانية واعتبرت حضور أحمد سعيد "تحدياً لكم في بلدكم"، مؤكداً أنه إذا كان ويلسون يشعر بمثل هذا التحدي فإن سيد مرعي مستعد ليأمر أحمد سعيد بمغادرة لندن فوراً، وبالطبع لم يعلق أحمد سعيد بكلمة على التعامل معه كأنه مجرد كرسي فوتيه في الجلسة، ولم يعلق هارولد ويلسون على "صياعة" سيد مرعي التي حاولت تلبيس التسخين الإعلامي ضد المواطنين البريطانيين لأحمد سعيد وحده، مفضلاً التركيز على فرصة تحسين العلاقات مع مصر، فسأل سيد مرعي عما يقترحه لتطوير العلاقات بين بريطانيا ومصر، فطلب منه سيد مرعي أن يعلن زيارته إلى مصر، فاعتذر ويلسون لأن ارتباطاته لا تسمح، فطلب منه سيد مرعي أن يرسل وزيراً إلى مصر ليلتقي بجمال عبد الناصر، شريطة ألا يكون مايكل ستيوارت، فضحك ويلسون وقال له بعد تفكير إنه موافق، وتلقى حافظ إسماعيل اتصالاً من مكتب رئيس الوزراء البريطاني للاتفاق على موعد زيارة الوزير البريطاني المقترح إلى القاهرة.


فوجئ سيد مرعي بعد ذلك بدعوة تأتيه لزيارة مجلس العموم البريطاني وجهها له أربعون نائباً لمناقشته في العلاقات المصرية البريطانية، فنصحه حافظ إسماعيل بالاعتذار عن اللقاء لأن أغلب أولئك النواب موالون تماماً لإسرائيل ومعادون لمصر، لكن علي أمين نصح سيد مرعي بتلبية دعوة النواب، وكان سيد مرعي نفسه يميل إلى ذلك، واستجاب لنصيحة علي أمين بأن يطلب ضم عشرين نائباً من أصحاب المواقف المعتدلة والمعارضة للسياسة البريطانية الخارجية، لكي يتولوا بأنفسهم مهمة تهدئة الاجتماع حين تتجاوز شراسة النواب المعادين الحد، واستعان سيد مرعي بأحد أفراد فريق الحراسة الإنجليزي المرافق له، لكي يعرف منه أسماء بعض النواب الذين لم يسبق لهم اتخاذ مواقف عدائية ضد مصر، وطلب من المسئولين البريطانيين إضافتهم إلى الاجتماع الذي كان عاصفاً في بدايته، لكن سيد مرعي نجح بمساعدة النواب العقلاء تحويل دفة الحوار، والخروج بنتائج إيجابية وغير متوقعة، لكن فرحته بما أنجزه في اجتماعاته لم تكتمل، فخلال مروره على روما قبل عودته إلى القاهرة، فوجئ بتصريحات عدائية لمصر أصدرها وزير الخارجية البريطاني الغاضب من تجاوزه في الاجتماعات السابقة، فأعلن عبد الناصر على إثر تلك التصريحات رفضه لمجيئ أي وزير بريطاني إلى مصر، ليحس سيد مرعي بأن كل ما فعله تبخر في لحظة، أما أحمد سعيد فقد كان أكثر المستفيدين من تلك الزيارة، لأنه قام بزيارة قريبه المشلول على نفقة الدولة، وحين عاد إلى مصر استأنف ترديد ما يمرر إليه من بيانات ومواقف وتصريحات، لكنه لم يعد لترديد الدعوة إلى قتل الإنجليز وذبحهم "حيث ثقفتموهم" لأن سياسة النظام لم تعد تطلب مثل هذه التصريحات النارية.

حين قرأت هذه الواقعة، تذكرت يوماً من أيام يونيو 1997، كنت أجلس فيه في مكتبي المتواضع في صحيفة (الدستور) بالقاهرة، عقب صدور أحد أعدادها الذي كان به ملف كبير عن هزيمة يونيو 1967، تطرق فيه كاتب إحدى المقالات ـ لا أذكر الآن هل كان الدكتور عماد أبو غازي أم لؤي محمود سعيد ـ إلى الدور "الهزلمأساوي" الذي لعبه أحمد سعيد في إذاعة الأخبار الكاذبة عن إسقاط مئات الطائرات الإسرائيلية في يونيو 1967 واجتياح القوات المصرية للأراضي المحتلة. حين قال لي موظف استقبال المكالمات التليفونية إن هناك متصلاً اسمه أحمد سعيد، وصف نفسه بأنه الإذاعي الكبير، وأنه يريد الوصول إلى أي مسئول في الصحيفة، سخرت منه لأنه وقع بسهولة في اشتغالة قام بها إما قارئ خفيف الظل أو زميل عالي المزاج، وطلبت منه تحويل المكالمة، وحين تلقيتها أربكني صوت المتصل الذي تلقيته، فمع أنني لم أكن قد سمعت صوت أحمد سعيد من قبل في الإذاعة، لأن أيامه الإذاعية كانت قد ولت، لكن صوت المتصل كان إذاعياً وفخيماً، وهو ما فرمل رغبتي في العبث معه، لذلك رحبت به وبدأت أستمع إليه باهتمام، وهو يشكو من أن المقال تعامل معه بوصفه قد رحل عن الدنيا، وهو لا يزال حياً يرزق، مؤكداً على أن هذا يستوجب التصحيح بشكل عاجل، وهو ما وعدته به معتذراً له عن الخطأ الذي ارتكبه الكاتب بحسن نية.

فاجأني أحمد سعيد حين أضاف بمرارة أنه يعذر كاتب المقال ويعذرنا كأسرة تحرير لأننا لم نتحقق مما نشر عن وفاته، فهو يعيش في حالة حصار كاملة منذ عقود، بعد أن تواطأ الجميع على تصويره بوصفه من كان يكتب البيانات الحربية في هزيمة 5 يونيو، مع أنه كان مجرد قارئ لها، لكن تركيز الهجوم عليه وتحميله مسئولية ما جاء فيها من أكاذيب، كان أسهل للجميع من الهجوم على المسئولين العسكريين الذين قاموا بكتابة البيانات. كان الرجل يتحدث بحزن ولكن بهدوء شديد، وحين وجد أنني متجاوب مع ما قاله، لأنني رأيته منطقياً، تحمس أكثر للحديث معي، وقال بدون مناسبة إنه تعرض للظلم حين تم اختزاله في دور المذيع الذي ألقى بيانات عسكرية كاذبة، ليتم التواطؤ على إخفاء حقيقة كونه كاتباً مسرحياً، قام في عز سطوة نظام يوليو بكتابة مسرحية اسمها (الشبعانين) تنتقد الكثير من السياسات الرسمية الخاطئة، بشكل لم يجرؤ عليه الكثيرون، وأن هذه المسرحية تعرضت للمنع بعد فترة قصيرة من عرضها، برغم أنها كانت من بطولة ثلاثي أضواء المسرح، وحين عرف أنني لم أسمع عما قاله من قبل، برغم أنني كنت قد نشرت في الصحيفة عدة تحقيقات صحفية عن فترة عبد الناصر، قال إنه سيرسل لي نص المسرحية الذي طبعه في كتاب، وأن مقدمة الكتاب تحتوي على قصة المنع وتفاصيله، وقد وصلني الكتاب بالفعل وعليه إهداؤه، وأظنه لا يزال في مكتبتي، لكنني أذكر أنني حين قرأت المسرحية لم أعجب بها على الإطلاق، ولذلك تهربت من المكالمة التالية لأحمد سعيد، لكي لا أضطر إلى إعلان رأيي الصريح في المسرحية، ولكي لا أتورط في مكالمات لا آخر لها، قد تسليه في وحدته وتعينه على تأمل ماضيه وتبريره، لكنها ستستهلك دون جدوى من وقتي المضغوط، ولذلك انتهت علاقتي به عند ذلك الحد، وهو ما ألوم نفسي عليه الآن، فقد كان من الأفضل أن أتهرب من إعلان رأيي في المسرحية أو أقوم بتجميله بشكل ما، لكي أقوم بمحاورة الرجل عن تفاصيل تجربته الإعلامية والإذاعية التي جعلته ملء السمع والبصر في العالم كله، قبل أن ينتهي به الحال منسياً وشاعراً بالظلم والمرارة.

بالتأكيد، كان سيد مرعي يستدعي في مذكراته التي نشرها بعد أن أصبح رئيساً لمجلس الشعب في عهد أنور السادات، قصة ما جرى له مع أحمد سعيد خلال زيارته الأولى إلى لندن، للتأكيد على حنكته وبعد نظره السياسي، مع أن الحكاية تكشف عن مناخ الفوضى الذي كان يلف عملية صنع القرار في مصر في وقت يعتبره الجميع أزهى عصور الدولة المصرية القوية، وتشير إلى عبثية تلك المرحلة التي كان مسئولو وإعلاميو الدولة "العظمى" التي احتلت مصر لعقود، يتعاملون بجدية أكثر من اللازم مع ما تعلنه الدولة المصرية عبر إذاعتها الرسمية، ربما لأنهم يعلمون أن هناك آلاف العرب من المحيط إلى الخليج، يتعاملون مع ما يرد إليهم عبر الأثير بوصفه صوت زعيمهم الخالد الذي يجب أن يأخذوا دعوته لقتل البريطانيين بجدية، في الوقت الذي كان الزعيم الخالد نفسه يبحث عن مخرج لتهدئة اللعب مع البريطانيين والأمريكان، وكان صوته الإذاعي الأشهر يبحث عن طريقة لتوفير نفقات السفر لكي يزور قريبه المسكين الذي ذهب للعلاج في بلاد الذين يدعو لقتلهم، مع أن بلاده كانت أولى بأن تهتم بعلاجه هو وغيره من المواطنين، الذين لم تجعل عنتريات صوت العرب حياتهم أحسن، ولم تنقذ بلادهم من الهزيمة العسكرية التي وقعت بعد عامين، وجعلتها البيانات الإعلامية الكاذبة أقسى وأنكى.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.