منغوليا... طريق لاكتشاف الذات

منغوليا... طريق لاكتشاف الذات

12 ابريل 2020
+ الخط -
تشير عقارب الساعة الراقصة إلى العاشرة والنصف. الصمت الخانق يخيّم على القاعة والكلّ ينتظر بحماسة ما سيقوله الباحث لوران لوقران عن حضارة المغول. ها هي الدقائق تمضي واحدة بعد الأخرى، ولم يتفوّه بحاثنا بكلمة، يا تراه ما يحمل في جعبته عن هذه الحضارة الغريبة؟

بعد خمس دقائق من الحملقة في الحضور قرّر صاحبنا أخيراً أن يضع حدّاً لصمته الخانق قائلاً: اليوم سأحدّثكم عن الأغنية المغولية. يا إلهي، مالي ومال الأغاني، ألم يحرّمها بني جلدتي؟ ويصفها فقهاء الدّين بالمزمار الذهبي للشيطان؟

حينها كدت أتوسّل للحضور: "بربّكم الذي بعضكم يثلّثه وبعضكم الآخر ينكر وجوده، أتركوني أغادر القاعة بسلام، فبيئتي الداخلية لا تملك مكاناً للثقافة وخاصة منها الأغاني المغولية"، وكاد جهلي يضيف "أكرم الله سمعكم". لكن تراجعت عن هذه الخطوة مذكّراً نفسي بالعهد الذي قُيّدت به منذ سنوات وكنت أسميته "المعاهدة الإبليسية".

إنّها معاهدة تنصّ على سماع أو قراءة كلّ ما كُتب وقيل عن الوجود الكوني والإنساني؛ حتّى وإن كان كاتبه أو قائله إبليس، ومن ثمّ، أترك للعقل والمنطق غربلة النافع من الضار.


ينطلق الكاتب بكلّ خفّة وبراعة في سرد الأحداث والمعلومات التي كانت تذهب في كلّ الاتجاهات، يتكلّم تارة عن علاقة الأغنية المغولية بالنظام الاشتراكي الذي كان يحكم البلاد، وتارة أخرى عن علاقة الأغنية بمعتقداتهم الدينية البوذية، ومرّة عن ولعهم بالخمر وتعلّقهم الشديد به، مضفياً إلى تلك المعلومات، صبغة من مغامراته الشخصية بين ليالي السُكر ومبيته في البراري.

لم تمض سوى دقائق معدودة حتّى أصبت بالصداع من كمّ وهول المعلومات التي كان يلقيها الأستاذ لوران، فقد كان محظوظاً منذ سنوات بتحصيله منحة دراسية حقّقت له حلمه باكتشاف المجتمع المغولي عن قرب.

بعد عودته إلى موطنه الأمّ فرنسا، أسّس مفهوماً يسمّى "الدراسات المغولية" اندرج بعد مجهوده الكبير مقرّرا رسميا يدرّس في الجامعات الفرنسية، لدارسي "حوار الثقافات" أو "علم الأحياء".

لكن هل يعقل أن تنفق وزارة التعليم الفرنسية أموالاً طائلةً لاكتشاف هذه الثقافة ونشرها بين أوساط المجتمع الفرنسي، ملبّية شغف باحث حالم؟ بل وتدعم مخابر علمية بغطاءات ماليّة ضخمة للتنقيب عن أدقّ تفاصيل دولة تبعد عنها آلاف الكيلومترات؟ أسئلة محيّرة لا يكتشف عمقها إلاّ من قرأ دراسات إدوار سعيد عن الاستشراق، أو استقى من حوض التاريخ بحملة نابليون بونابرت على مصر.

أمّا العجيب في مجمل الأمر، شغف الحضور الذي كان متكوّناً من باحثين وطلبة في شتّى المجالات العلمية -حتّى تلك التي تبعد مسافات كبرى عن حقل العلوم الإنسانية-، بهذه المحاضرة.

لم يكن بحاثنا قد أنهى شكره للجمع على حسن الاستماع، حتّى تسابقت الأيادي متعالية بطلب طرح وابلٍ من الأسئلة، أظهرت شغف المجتمع الفرنسي لاكتشاف الآخر وأذهبت ذلك التعجُّب، ملخّصة جوهر ما كُتب عن علاقة "الأنا بالآخر" على كونها مرآة كاشفة للذات.

وبما أنّ متلازمة المقارنة لا تكاد تفارق مخيّلتي وما تطرح من أفكار، أخذت أقارن وسط تلك الأسئلة وما تمخّض عنها من نقاشات، جميل ما أسمع وأرى، بحال أغلب الأنظمة العربية وما نتج عنها من شعوب.

فلا هي داعمة للبحث حتّى وإن كان في مجالاته الضرورية، ولا حاملة لمشاريع استكشافيّة ولو تعلّق الأمر بشعوب رسمت معالم أساسيّة لتاريخها. أمّا شعوبها التي يُستثنى منها القليل فحدّث ولا حرج، فشعاراتها ازدراء وتهكُّم من الآخر القريب، فما بالك بالبعيد بعد منغوليا.

غادرت القاعة بعدما كنت أولّ المصفّقين للباحث لوران لوقران لروعة ما أفصح بحثه، معاتباً نفسي على ما علق بها من سلبيات الفكر العربي، وشكرت المعاهدة الإبليسية لدورها الكبير في البحث عن ذاتي التائهة.